بعد سقوط الخلافة الأموية في الشام، وارتقاء بني العباس لسدة الحكم، كان الهمّ الشاغل للعباسيين هو مطاردة ذرية بني أمية، والقضاء عليهم، كان خوفهم من أن يأتي رجل ليجدد خلافة أجداده فيربكهم، ويستفزّ دوافعهم ليكونوا أكثر شراسة في مطاردة فلول الأمويين في كل بقاع العالم الإسلامي، ولقد تحقق لهم ما كانوا يطمحون إليه، وانتهى نسل بني أمية اللهم إلا من شاب طريد، هرب وحده لا يصحبه سوى خادمه، وتنقل من الشام إلى فلسطين إلى مصر إلى المغرب، ملاقيا الأهوال، مُتخفيا عن أعين هذا وذاك، وكاد أكثر من مرة أن يقع في أيدي جنود أبي جعفر المنصور -خليفة بني العباس آنذاك- لكنه في النهاية وصل إلى المغرب، ثم أرسل خادمه بمهمة سرية وفي غاية الخطورة إلى الأندلس، وهي أن يبحث عن موالي بني أمية، ويُنبئهم بخبره، ويأخذ منهم العهد على أن ينصروه، ويُخلصوا له كما أخلصوا لآبائه وأجداده، وقد كان..
ونزل الطريد الهارب إلى الأندلس -وهو لم يبلغ بعدُ الخامسة والعشرين- فاجتمع بنفر غير كبير من أتباع دولة بني أمية، فنظّم صفوفهم، وأزال العصبية الجاهلية من بينهم، وبدأ في وضع أول حجر في دولة الأندلس الحقيقية، وبه تجدد مرة أخرى مُلك بني أمية في المغرب بعدما ضاع في المشرق، واتسعت رقعة الإسلام في أوروبا، وانتشر العلم، والفن، والأدب، وصارت قرطبة هي قبلة الباحث عن الحضارة، وتعلّم في جامعاتها جميع الأوربيين، بمختلف أديانهم ومشاربهم..
وأصبحت قصة الطريد الهارب عبد الرحمن بن معاوية والذي اشتهر في كتب التاريخ بـ"صقر قريش" مثالا حيا على أن صاحب العزم والطموح -إذا ما صح عزمه وصدقت دعواه- قادر على أن يفعل المستحيل.
لكنني وإذ أقرأ في سيرة هذا الملك العظيم توقفت أمام مشهد عجيب، وهو أصل تسميته بصقر قريش، إن ذلك اللقب العظيم لم يعطه إياه وزراؤه، ولا أتباعه، ولا مواليه، وإنما أطلقه عليه أحد أخطر وأكبر وألدّ أعدائه!
فمما يُذكر أن أبي جعفر المنصور كان جالسا ذات مرة وسط حشد من أنصاره ومستشاريه، حينما سألهم: "أتدرون من هو صقر قريش!"، فقالوا له بسرعة: "أنت يا أمير المؤمنين"، فقال لهم: لم تقولوا شيئا، ففكّروا ثم عددوا له أسماء كثيرة من بني العباس وهو يجيبهم بالنفي، فعددوا له من بني أمية حتى وصلوا إلى معاوية بن أبي سفيان وهو لا يزيد عن قوله: لا.. ثم أجابهم قائلا: "بل هو عبد الرحمن بن معاوية!! فنظر القوم بعضهم لبعض في دهشة، فابتسم قائلا: ومن غيره؟!، دخل الأندلس منفردًا بنفسه، مؤيّدًا برأيه، مستصحبًا لعزمه، يعبر القفر ويركب البحر حتى دخل بلدًا أعجميًا فمصّر الأمصار وجنّد الأجناد، وأقام ملكًا بعد انقطاعه بحسن تدبيره وشدة عزمه". فقال له بعض أتباعه مستعجبا: لكنه عدوّك يا مولاي وعدو بني العباس. فقال لهم: لا والله لا تمنعني عداوتي له، وكرهي إياه من أن أعطيه حقه، والحق أحق أن يقال! ثم قال: "توقفوا عن حربه؛ فما لنا في هذا الفتى من مطمع، الحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر!
إن هذا الإنصاف الذي دفع رجلا بدرجة "سلطان" إلى أن يعترف بخصال ونقاط قوة خصمه، وأن يمنحه لقبا غاليا كهذا، لشيء يستحق التأمل والتعلم.
نحتاج إلى أن نتأمل اليوم حالنا وقد صار الإنصاف عملة نادرة، وأصبح إعطاء الناس حقوقهم الأدبية وإنزالهم منازلهم التي يستحقونها بحُسن سيرتهم وتدبيرهم وعطائهم أمراً غير موجود في دنيانا.
صرنا نُصنّف الناس على أنهم أعداء أو أصدقاء، حُلفاء أو أنداد، معنا أو علينا، دون أن نحفظ لهم سابقة حسنة حصلوها بعرقهم واجتهادهم.
صار شعارنا "من معي فهو قديس.. ومن ضدي فهو إبليس"!!
إننا بحاجة إلى أن نتعلم كيف يختلف المرء منا مع شخص ما، ويأبى إلا أن يطوي قلبه على احترامه وتقديره، فضلا عن محبته وإعزازه.
http://www.boswtol.com/sites/default/files/imagecache/article_image/sites/default/files/11/Mar/12/ap08434.jpgنحتاج يا أصدقائي -ونحن نخطو الخطوة الأولى في طريق الحرية- أن ندرك أن الأحرار كما أنهم لا يقبلون الحيف والظُلم، فإنهم أيضا لا يظلمون، ولا يطغون.
وأن إنزال الناس منازلهم، ومعرفة أقدار الرجال -مهما اختلفنا معهم- هو دليل على عظمة ورقي المرء منا، ودليل عملي على أننا قد هذّبنا نفوسنا، وأصلحنا البوار الذي طالها من طول المكوث في مملكة الظلم والطغيان، بما فيهما من تطرف وتجاوز.
يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: "احترامي لك لا يعني بتاتا أن أُسلّم بكل ما تقول، وتخطئتي لإنسان ما لا تعني أبدأ أني أفضل منه، فحقيقة الفضل لا يعلمها إلا الله، والأئمة الراسخون قد تحدث منهم هنات (هفوات)، وما يهدم ذلك مكانة حصلوها بالسهر والإخلاص والدأب والتفاني".
الإنصاف يا أصدقائي.. الإنصاف..
عملة نادرة عزيزة، لكنها غالية مطلوبة في سوق الحرية والديمقراطية التي نتحدث عنهما..
وبدون الإنصاف والعدل سيكون كل كلامنا عن القيم والمثل الجميلة البراقة كلام أجوف، وهراء ليس له داعٍ، ولن نجني من ورائه أي خير.