عند الابتلاء الجمع بين الخوف والرجاء
يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ : يا من عزم على السفر إلى الله والدار الآخرة قد رفع لك علم فشمر إليه ، فقد أمكن التشمير ، واجعل سيرك بين مطالعة منـته ، ومشاهدة عيب النفس ، والعمل ، والتقصير ، فما أبقى مشهد النعمة ، والذنب للعارف من حسنة يقول : هذه منجيتي من عذاب السعير ما المعول إلا على عفوه ومغفرته ، فكل أحد إليهما فقير ؛ أبوء لك بنعمتك علي ، وأبوء بذنبي ، فاغفر لي أنا المذنب المسكين ، وأنت الرحيم الغفور ؛ ما تساوي أعمالك ـ لو سَلمت مما يبطلها ـ أدنى نعمة من نعمه عليك ، وأنت مرتهن بشكرها من حين أرسل بها إليك ، فهل رعيتها بالله حق رعايتها ، وهي في تصريفك ، وطوع يديك ، فتعلق بحبل الرجاء ، وادخل من باب التوبة ، والعمل الصالح إنه غفور شكور .
نهج للعبد طريق النجاة ، وفتح له أبوابها ، وعرفه طرق تحصيل السعادة ، وأعطاه أسبابها ، وحذره من وبال معصيته ، وأشهده على نفسه ، وعلى غيره شؤمها وعقابها ، وقال : إن أطعت فبفضلي ، وأنا أشكر ، وإن عصيت فبقضائي ، وأنا أغفر إن ربنا لغفور شكور .
وأزاح عن العبد العلل ، وأمره أن يستعيذ به من العجز والكسل ، ووعده أن يشكر له القليل من العمل ، ويغفر له الكثير من الزلل إن ربنا لغفور شكور .
أعطاه ما يشكر عليه ثم يشكره على إحسانه إلى نفسه لا على إحسانه إليه ، ووعده على إحسانه لنفسه أن يحسن جزاؤه ، ويقربه لديه ، وأن يغفر له خطاياه إذا تاب منها ، ولا يفضحه بين يديه إن ربنا لغفور شكور .
وَثِقَتْ بعفوه هفوات المذنبين فوسعتها ، وعكفت بكرمه آمال المحسنين فما قطع طمعها ، وخرقت السبع الطباق دعوات التائبين والسائلين فسمعها ، ووسع الخلائق عفوه ومغفرته ورزقه { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها}[ هود : 6 ] إن ربنا لغفور شكور .
يجود على عبيده بالنوافل قبل السؤال ويعطي سائله ومؤمله فوق ما تعلقت به منهم الآمال ، ويغفر لمن تاب إليه ولو بلغت ذنوبه عدد الأمواج والحصى ، والتراب ، والرمال إن ربنا لغفور شكور .
أرحم بعباده من الوالدة بولدها ، وأفرح بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة إذا وجدها ، وأشكر للقليل من جميع خلقه ممن تقرب إليه بمثقال ذرة من الخير شكرها وحمدها إن ربنا لغفور شكور .
تعرف إلى عباده بأسمائه ، وأوصافه ، وتحبب إليهم بحلمه وآلائه ، ولم تمنعه معاصيهم بأن جاد عليهم بآلائه ، ووعد من تاب إليه وأحسن طاعته بمغفرة ذنوبه يوم لقائه إن ربنا لغفور شكور .
السعادة كلها في طاعته ، والأرباح كلها في معاملته ، والمحن والبلايا كلها في معصيته ومخالفته ، فليس للعبد أنفع من شكره وتوبته إن ربنا لغفور شكور .
أفاض على خلقه النعمة ، وكتب على نفسه الرحمة ، وضمن الكتاب الذي كتبه إن رحمته تغلب غضبه إن ربنا لغفور شكور .
يطاع فَيَشْكُر وطاعته من توفيقه وفضله ، ويُعصي فيحلم ومعصية العبد من ظلمه وجهله ، ويتوب إليه فاعل القبيح فيغفر له حتى كأنه لم يكن قط من أهله إن ربنا لغفور شكور .
الحسنة عنده بعشر أمثالها أو يضاعفها بلا عدد ولا حسبان ، والسيئة عنده بواحدة ومصيرها إلى العفو والغفران ، وباب التوبة مفتوح لديه منذ خلق السماوات والأرض إلى آخر الزمان إن ربنا لغفور شكور .
باب الكريم مناخ الآمال ومحط الأوزار ، وسماء عطاه لا تقلع عن الغيث بل هي مدرار ، يمينه ملأى لا تغيضها نفقة سحاء بالليل والنهار إن ربنا لغفور شكور .
لا يلقى وصاياه إلا الصابرون ، ولا يفوز بعطاياه إلا الشاكرون ، ولا يهلك عليه إلا الهالكون ، ولا يشقى بعذابه إلا المتمردون إن ربنا لغفور شكور .
فإياك أيها المتمرد أن يأخذك على غرة فإنه غيور ، وإذا أقمت على معصيته وهو يمدك بنعمته فاحذره ، فإنه لم يهملك لكنه صبور ، وبشراك أيها التائب بمغفرته ورحمته إنه غفور شكور .
من علم أن الرب شكور تنوع في معاملته ، ومن عرف أنه واسع المغفرة تعلق بأذيال مغفرته ، ومن علم أن رحمته سبقت غضبه لم ييأس من رحمته إن ربنا لغفور شكور .
من تعلق بصفة من صفاته أخذته بيده حتى تدخله عليه ، ومن سار إليه بأسمائه الحسنى وصل إليه ، ومن أحبه أحب أسمائه وصفاته ، وكانت آثر شيء لديه ؛ حياة القلوب في معرفته ومحبته ، وكمال الجوارح في التقرب إليه بطاعته ، والقيام بخدمته ، والألسنة بذكره ، والثناء عليه بأوصاف مدحته ، فأهل شكره أهل زيارته ، وأهل ذكره أهل مجالسته ، وأهل طاعته أهل كرامته ، وأهل معصيته لا يقنطهم من رحمته إن تابوا فهو حبيبهم وإن لم يتوبوا فهو طبيبهم يبتليهم بأنواع المصائب ليكفر عنهم الخطايا ويطهرهم من المصائب إنه غفور شكور.
* * * * *