امرأة تصنع الأبطال
لقد كانت الخنساء من خيرة نساء العرب في الجاهلية، ويوم أن قتل أخوها، بكته بُكاء صار مثلاً في الجزع والنياحة، من شدة ما كانت تجد في نفسها من فقده!
ولكنها لما أسلمت وحسن إسلامها، أصبحت تصنع الأبطال، وتعطي الدروس والعبر للأجيال؛ إذ لما تأهب أبناؤها وأشطار كبدها إلى القتال، وعظتهم موعظة القائد الصارم الذي يشحذ همم الجنود، ويوقظ سبات الرقود، فقالت لهم: ( يا بني إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين والله الذي لا إله إلا هو، إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما هجنتُ حسبكم، وما غيرت نسبكن، واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية. اصبروا وصابروا، ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها وحللت ناراً على أوراقها، فيمموا وطيسها، وجالدوا رسيسها، تظفروا بالغنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة ).
ولما حمي وطيس القتال، تدافعوا على العدو، حتى ماتوا جميعاً رحمهم الله، فما كان منها إلا أن قالت: ( الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من الله أن يجمعني بهم في مستقر الرحمة ) [انظر الإصابة:7/615-616].
فأين أمثال الخنساء في زماننا؟ وأين من يعلي همم البنات والأبناء للتضحية في سبيل الدين إن لم يكن بالقتال، فبالعلم، والعمل والدعوة والنصيحة وبذل المعروف وكف الأذى؟
أختي المسلمة: تذكري أن البيت هو مدرسة الأبناء، وأنك المعلمة فيه، فبمقتضى التوجيه والتربية التي ترعين بها أبناءك يكون نهجهم ونتاجهم في الحياة، ولذا فإن حسن التوجيه وأدب التربية شرط في صناعة الأبطال.
فالبنت مدرسة إذا أعددتها *** أعددت شعبًا طيبًا الأعراق
ومن تأمل واقع المسلمين اليوم وجد أن السبب في ظهور الانحطاط في جوانب كثيرة من حياتهم، هو غياب روح التربية والتوجيه، وغياب دور الأمومة الريادي في صناعة الرجال الذين يرفعون راية الدين. فكوني رعاك الله مهتمة بأبنائك، واجعلي منهم جنداً لله! المرأة.. تهزم الروم!
في وقعة اليرموك شهد التاريخ للمرأة بالشجاعة والبطولة، والتضحية والبذل من أجل نصرة الإسلام والمسلمين، ولقد أصاب الروم من العجب والدهشة حين رأوا نساء المجاهدين يضربن بالأحجار والخشب والعصي، ويقفزن فوق فرسان الروم، ويقتلن كما يفعل الرجال بل أكثر!
وفي زماننا انقلبت الأحوال وأصبح في قلوب كثير من النساء تعظيم للروم -الغرب- وأحواله وأصبحنّ يقلدنه في كل صغيرة وكبيرة، إعجاباً بأسلوب معيشته وشخصيته رجاله ونسائه وأطفاله.
ذهب الذين يعاش في أكنافهم *** وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ففي وقعة اليرموك، فر جموع من المسلمين لما تكاثرت عليهم جيوش الروم على الميمنة، وهنا تظهر شجاعة النساء ودورهن في التحريض على الجهاد، حيث نادت النساء: ( يا بنات العرب! دونكم والرجال، ردوهم من الهزيمة حتى يعودوا إلى الحرب )، قالت سعيدة بنت عاصم الخولاني: ( كنت في جملة النساء يومئذ على التل، فلما انكشفت ميمنة المسلمين صاحت بنا عقيرة بنت غفار وكانت من المترجلات الباذلات، ونادت: ( يا نساء العرب! دونكم والرجال، واحملن أولادكن على أيديكن، واستقبلنهن بالتحريض ) ). وجعلت ابنة العاصي بن منبه تنادي: ( قبح الله وجه رجل يفرر عن حليلته )، وجعل النساء يقلن لأزواجهن: ( لستم لنا ببعولة إن لم تمنعوا عنا هؤلاء الأعلاج [الأعلاج: جمع علج: وهو الرجل الكافر من العجم.] ) [البداية والنهاية:7/11].
وكانت خولة تقول هذه الأبيات:
يا هاربًا عن نسوة ثقاتْ *** لها حمال ولها ثباتْ
يسلموهن إلى الهناتْ *** تملك نواصينا مع البناتْ
أعْلاجُ سُوء فسق عتاةْ *** ينلن منا أعظمَ الشتاتْ
قال ابن جرير: ( وقد قاتل نساء المسلمين في هذا اليوم، وقتلوا خلقاً كثيراً من الروم، وكن يضربن من انهزم من المسلمين، ويقلن: ( أين تذهبون وتدعوننا للعلوج؟ فإذا زجرنهم لا يملك أحد نفسه حتى يرجع إلى القتال ) ) [المصدر نفسه].
وخرجت هند ابنة عتبة، وبيدها مزهر ومن خلفها نساء من المهاجرين، وهي تحرض المجاهدين، وتقول الشعر الذي قالته يوم أحد:
نحن بنات طارق *** نمشي على النمارق
مشي القطا الموافق *** قيدي مع المرافق
ومن أبى نفارق *** إن تغلبوا نعانق
أو تدبروا نفارق *** فراق غير واثق
هل من كريم عاشق *** يحمي عن العواتق
ثم استقبلت خيل ميمنة المسلمين، فرأتهم منهزمين، فصاحت بهم: ( على أين تنهزمون؟ وإلى أين تفرون؟ من الله ومن جنته؟ هو مطلع عليكم ). ونظرت إلى زوجها أبي سفيان منهزمًا فضربت وجه حصانه بعمودها، وقالت له: ( إلى أين يا أبا صخر؟ ارجع إلى القتال، ابذل مهجتك حتى تمحص ما سلف من تحريضك على رسول الله
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة])، قال الزبير بن العوام: "فلما سمعت كلام هند لأبي سفيان، ذكرت يوم أحد ونحن بين يدي رسول الله
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] قال: فعطف أبو سفيان عندما سمع كلام هند، وعطف المسلمون معه، ونظرت إلى النساء وقد حملن معهم، وقد رأيتهن يسابقن الرجال.
ولقد رأيتُ منهن امرأة وقد أقبلت على علج [فارس من فرسان الروم] عظيم وهو على فرسه، فتعلقت به، وما زالت به حتى نكبته عن جواده، وقتلته، وهي تقول: ( هذا بيان نصر الله للمسلمين!! ) وفي هذه الواقعة قتلت أسماء بنت يزيد بن السكن بعمود خبائها تسعة من الروم ) [سير أعلام النبلاء:2/297].
أختي المسلمة.. إن هذه المشاهد الجميلة النيرة في تاريخ المرأة المسلمة لتبعث في النفس الهمة والطموح وتقذف في القلب التطلع والشموخ، فالمرأة هي قوام المجتمع ونواة الأسرة، شأنها في كل الميادين الشرعية عظيم! فتأملي رعاكِ الله في صولات المجاهدات كيف أوقعن أعداء الله الروم في هزيمة نكراء سجلها التاريخ ولم يسجل مثلها بعد!
فشمري عن ساعد الجد، واصنعي الأبطال كما صنع السابقات، وكوني لزوجكِ محرضة على الخير والفضل.
نحن في ذي الحياة ركب سفار *** يصل اللاحقين بالماضينا
قد هدانا السبيل من سبقونا *** وعلينا هداية الآيتنا
امرأة عابدة
وأما في العبادة فقد كانت أمهات المؤمنين عابدات زاهدات، قانتات طائعات، صائمات قائمات. ومن بينهنّ: أم المؤمنين زينب بنت جحش بن رئاب ابنة عمة النبي
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]ورضي الله عنها امرأة صناعاً، وكانت تعمل بيدها، وتتصدق به في سبيل الله [سير أعلام النبلاء:2/217].
وكانت رضي الله عنها صالحة، صواحة، قوامة، بارة، ويُقال لها: "أم المساكين"، وقالت فيها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بعد موتها: ( لقد ذهبت حميدة متعبدة، مفزع اليتامى والأرامل ) [الإصابة:7/670]، وعن أنس
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] قال: ( دخل النبي
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال:
{ ما هذا الحبل؟ } قالوا: حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت. فقال النبي
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]:
{ لا، حلوه ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد } ) [صحيح البخاري].
وقالت عائشة رضي الله عنها أيضاً: ( كانت زينب بنت جحش تساويني في المنزلة عند رسول الله
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]، ولم أرى امرأة قط خيراً في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تتصدق به، وتقرُباً به إلى الله تعالى ما عدا سورةً من حدَّة، كانت فيها تسرعُ منها الفيئة ) [الإصابة:2/214].
أختي المؤمنة: فاجتهدي رعاكِ الله في طاعة الله، واتخذي أمهات المؤمنين لكِ قدوة واقرئي أحوالهنّ في كتب التراجم والسير والمناقب، لتعرفي ما كنّ عليه من العبادة والزهد في الدنيا، والتقرب إلى الله بالطاعات وصالح الأعمال، وإياكِ والاغترار بما عليه نساء هذا الزمان؛ فإن الكثرة ليست دليلًا على الحق، قال تعالى:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، وقال تعالى عن نوح:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40]. امرأة عالمة
ولقد كان للمرأة دور بارز في حفظ العلوم وتلقينها؛ فهذا الإمام أبو مسلم الفراهيدي المحدث يكتب عن سبعين امرأة [من أخلاق العلماء:345]، وهذا الحافظ ابن عساكر الملقب بحافظ الأمة، كان له شيوخه وأساتذته بضع وثمانون من النساء!! [المرأة العربية:2/138].
ومن نماذج النساء العالمات في عصر السلف: حفصة بنت سيرين، أم الهذيل الفقيهة الأنصارية. قال هشام بن حسان: ( قرأت حفصة بنت سيرين القرآن وهي ابنة اثنتي عشرة سنة، وماتت وهي ابنة تسعين ).
وعنه أن ابن سيرين كان إذا أشكل عليه شيء من القرآن قال: ( اذهبوا فسلوا حفصة كيف تقرأ )، وعنه قال: ( اشترت حفصة جارية أظنها سندية فقيل لها: كيف رأيت مولاتك؟ فذكر إبراهيم كلامًا بالفارسية تفسيره: إنها امرأة صالحة، إلا أنها أذنبت ذنباً عظيماً فهي الليل كله تبكي وتصلي ) [سير أعلام النبلاء:4/507].
أخية: تأملي حفظكِ الله كيف جمعت هذه المرأة الصالحة بين جمال العلم والعبادة، فقد نورها الله بالقرآن علمًا وعملًا، وفي زماننا كثر العلم وانتشر، وملأ الشريط الإسلامي والكتاب الإسلامي أركان المكتبات في البيوت، ولكن الفقه والفهم يكاد ينعدم؛ فهو مبسوط في الرفوف مقبوض عن الصدور، ولقد كثرت جمعيات التحفيظ، ولكن القليلات ممن هداهن الله اللواتي يملأنها بالذكر والتلاوة والحفظ والله المستعان.
فأين نساؤنا من نساء السلف؟! وأين الثرى من الثريا! ولكننا لا نضرب صفحاً عن الأمل، فلا تزال في كل وقت وحين بوادر خير في الزوايا، تنشر الخير وتدل عليه، ولا يزال بصيص نور وضاء هنا وهناك يضئ لنساء الأمة الطريق، ويجنبها الزلل ويجدد فيها الطموح والأمل، وبالله التوفيق.
وصلى الله على محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين