علم فن الادارة من هدهد سليمان عليه السلام .
بقلم د. محمد المحمدي الماضي
لا شك أن القصص القرآني الذي تناثر بين دفتي المصحف الشريف، قد تضمَّن في طياته دروسًا عظيمةً في الإدارة، سواءٌ ما كان منها على لسان إنسان أو منطق حيوان، ويحتاج هذا الجانب منا إلى وقفة، بل وقفات لنستخلص منها دروسًا وعبرًا يمكن أن تكون بمثابة نظريات وقوانين مرشدة وملهمة في مجالات الإدارة المختلفة، خاصةً أن تناولها في القرآن يجعلها بمثابة العمل التطبيقي التجريبي الذي يوفر لها رصيدًا قد لا يتوفر لغيرها من التجربة والواقعية والمصداقية.
ومن بين هذه القصص التي أرجو من الله أن يمكنني من تناولها، ويفتح لي أبوابَ الفهم والرحمة والفقه فيها؛ قصة سيدنا سليمان، عليه وعلى نبينا أفضل الصلوات والتسليم، والتي لها ظلال وانعكاسات متعددة الجوانب في مجالات الإدارة، والتي سوف نبدأ معًا أولى خطواتها مع الهدهد.. فهيا لالتماس الدروس والعبر الإدارية:
الدرس الأول: يقظة قائد
ويتجلى هذا الدرس الأول في أول ما يطالعنا من موقف سليمان عليه السلام حينما يروي القرآن على لسانه ﴿مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ﴾ (النمل: من الآية 20)، وذلك بعد أن تفقَّد الطير وتفحَّص عمَّن فيه، كما ذكر القرآن ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ﴾ (النمل: من الآية 20)، وهذا يدلُّ على أن القائد لا بد أن يكون يقظًا ومنتبهًا لمن معه، من التفقد والتعرف عليهم وعلى أحوالهم والإحساس بهم والشعور بمن يغيب أو يحضر منهم؛ خاصةً أولئك الذين يلونه مباشرةً.
الدرس الثاني: العقاب المتدرِّج على قدر الخطأ
لا شك أن قضية الثواب والعقاب لها في الإدارة مجال ودور كبير، ويمارسها المديرون بمذاهب شتَّى؛ فمنهم من يرفع سيف العقاب والردع والتخويف على طول الخط، ومنهم من يغمده على طول الخط، وحار الناس بين هذا وذاك، ولكننا نرى في هذه القصة كيف أن سليمان عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم قد أخذ بمبدأ العقاب ابتداءً؛ باعتباره حافزًا سلبيًّا، ولكننا نراه قد تضمَّن أعلى درجات الموضوعية والعدل والحكمة، ويبدو ذلك في الآتي:
1- أنه لم يترك الأمر فوضى، ليفعل كل فرد ما يحلو له دون حساب أو مساءلة وعقاب.
2- أنه لم يبدأ في إعلان العقاب المنتظر إلا بعد أن تأكد فعلاً من غياب الهدهد، وأنه ليس مجرد اختفاء مؤقت عن مستوى رؤيته؛ حيث سأل عن ذلك بوضوح: ﴿مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ﴾ فلما تبين له أنه فعلاً غائب أعلن عن العقاب المنتظر له في مثل هذه الأحوال.
3- تراوح العقاب المعلن والمنتظر بين درجات ثلاث: أشدُّها وأقصاها ذبحه، وأقلها تعذيبه عذابًا شديدًا، ولا ينجيه من أحدهما إلا أن يكون لديه حجة بينة واضحة ويقينية وغير ملفَّقة أو مدبَّرة.
4- ويحمل ذلك في طياته ضرورة ألا يطغى الانفعال على العقل ولا الغضب على العدل، فكثيرًا ما نجد أحدنا حينما يتعرض لمثل هذا الموقف يتوعَّد بالويل والثبور وعظائم الأمور فقط، دون مراعاة لما قد تكون عليه ظروف الطرف الآخر، وما قد يكون من أعذار.
5- كما يشير ذلك التدرج إلى ضرورة أن يكون العقاب على قدر الخطأ؛ فإن كان هناك تمرُّد مثلاً فليكن الذبح، وإن كان مجرد غياب وناتج من تكاسل غير مقصود أو سبب غير مقبول فليكن التعذيب الشديد، ولا شك أن ذلك سوف يختلف باختلاف درجة التعمُّد والقصد ومدى تكرار الفعل الموجب للعقاب.
6- أن ما سبق يحتاج ولا بد إلى نوع من التحقيق والمحاكمة، وإعلان الادعاء، وسماع الدفاع، وإعطاء الفرصة كاملة لكليهما وبشكل عادل ومحايد؛ للوصول إلى البينة التي توضح حقائق الأمور، وإلا فكيف يمكن التوصل إلى قرار باختيار العقاب المناسب أو قبول العذر؟! سواءٌ كانت هذه المحاكمة بواسطة القائد نفسه، أو قد تسند إلى فرد آخر مختص، أو لجنة مختصة (لجنة تأديب).
8- أن ذلك يؤكد نقطة أخرى مهمة، وهي ضرورة وجود ما يسمى بلائحة الجزاءات، تمامًا كما يجب أن يكون هناك نظام كامل وواضح للحوافز، وأن هذه اللائحة يجب أن تكون واضحةً ومعلنةً ومفهومةً لدى كل من يعمل في المنظمة.
9- الفصل التام بين الشخص والخطأ، والتزام الموضوعية التامة في ذلك، والتعامل معه على أنه بريء إلى أن تثبت إدانته، وإعطاؤه فرصة تامة لإبداء حججه والدفاع عن نفسه وتوضيح موقفه.. وهذا ما يظهر من موقف الهدهد حين قال لسليمان عليه السلام بعد أن اقترب منه: ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ (النمل: من الآية 22)، ولا يمكن أن يجرؤ على مثل هذا القول، ولا يقف مثل هذا الموقف شديد القرب من القائد ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ (النمل: من الآية 22)، إلا إذا كان لا يزال يعامَل معاملة البريء، وينظر إليه من منطلق الفصل بين الشخص والمشكلة التي يمكن أن تنشأ عنه.
ولعل هذه النقطة من أشد نقاط الإدارة والتربية عمومًا حساسيةً وتعرضًا للانتهاك؛ حيث إننا نرى أن الغالب هو أن يخلط الناس بين الأمرين، فإذا أخطأ أحد أخذنا منه موقفًا، وأعلنا أنه كذا.. وكذا.. "إنك مقصر ومخطئ"، والمفروض أن نقول بدلاً من ذلك إن الفعل الذي أتيت به كذا... وكذا.... (هذا الفعل خطأ ولا ينبغي...)، ولعل ما يؤكد أهمية الالتزام بذلك؛ التوجيه الرباني الذي ورد في القرآن لإرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)﴾ (الشعراء).. ولم يقل إني بريء منكم، وهذا مبدأ من المبادئ العظيمة في الإدارة والتربية والتعامل مع الناس عمومًا، وهو مبدأ الفصل بين الشخص والمشكلة أو الخطأ.