المسلم إنسان إيجابي يكره السلبية والإمعية , ويسعى لإصلاح الكون بكل ما يملك ؛ لأنه يدرك أن الإيجابية هي الروح التي تدبُّ في الأفراد فتجعل لهم قيمةً في الحياة، وتدب في المجتمع فتجعله مجتمعًا نابضًا بالحياة، وهي الهادي الذي لا يضل الطريق، والأمل الذي لا يتبدد، والمطية التي لا تكبو، وهي صمام أمان للجميع، وهي جماع عدة أمور من أمرٍ بالمعروف ونهيٍ عن المنكر، وبرٍّ ووفاءٍ وصدقِ عهد مع الله .
والإيجابية تعني الاستجابة والتلبية, والطاعة والمسارعة إلى الخير, ومنها قول الحق : ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ? سورة الأنفال: 24 .
وعندما أسمع أن الله ينادي عباده استجيبوا, فإني أجد أن الاستجابة لنداء الله واجبةٌ, وهي سداة الايجابية ولحمتها , وأن أحدًا ممن يسمع كلام الله استجابوا غير معذور إذا لم يستجب،بل إنه إذا لم يستجب مع أنه قادر على أن يستجيب أصبح عاصيًا لله تبارك وتعالى، وتلبُّسه بالمعصية نكوصًا وإحجامًا يجعله موضع غضب الله تبارك وتعالى ونقمته، فالاستجابة إذًا ضرورةٌ شرعيةٌ, وهي أيضًا ضرورة حياتية لا يمكن أن تستقيم الحياة بدونها.
وتكمن أهمية الإيجابية- فيما نرى- في أنها:
1- تمنع من الانحراف في الدين:
مشكلة أي دين تكمن في الابتداع فيه؛ لذلك حذَّر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- منه، بل هدَّد وأوعد من يقدم على هذا الفعل فقال: \"مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي فَعَمِلَ بِهَا النَّاسُ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لاَ يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ ابْتَدَعَ بِدْعَةً فَعُمِلَ بِهَا كَانَ عَلَيْهِ أَوْزَارُ مَنْ عَمِلَ بِهَا لاَ يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِ مَنْ عَمِلَ بِهَا شَيْئًا. أخرجه ابن ماجه في \"المقدمة\"، باب: \"من أحيا سنة قد أميتت\"، ح (205)، وصححه الألباني في \"صحيح سنن ابن ماجه\"، (209)..
والبدعة لا تقوم ولا تظهر إلا عند غفلة أهل الحق وقعودهم عن القيام بالمسئولية المنوطة بهم، المعلَّقة في أعناقهم، فإذا وَجَدَتْ عند ابتدائها من يردها فإنها ترجع مدحورةً إلى جحرها، ولا تزال تطل برأسها بين الحين والآخر، وتنظر من طرف خفي حتى تجد الغفلة والسهو من أهل الحق فتعود من جديد.
2- تعمل على تصحيح المفاهيم:
المجتمع الإنساني تتفاوت فيه مستويات الفهم؛ فهناك مَن يسير على الجادة وهناك من ينحرف به الطريق، والمجتمع الإسلامي ليس بدعًا في هذا الأمر، ولكن ما العاصم إذا ما حدث انحراف في الفهم ؟.
هنا لم يتركنا الإسلام للأهواء تتقاذفنا حيث تشاء، ولكنه وضح لنا المنهج؛ حيث قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: \"يَا أَيُّهَا النَّاسُ.. إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي \" . أخرجه الترمذي في \"المناقب\"، باب: \"مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم\"، ح (3718)، قال الترمذي: وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وصححه الألباني في \"صحيح سنن الترمذي\"، ح (3786..
فنرى هنا أن الفهم الصحيح يعتمد على شقين: شق نظري، وشق تطبيقي. أما النظري فهو كتاب الله، وأما العملي فهم القائمون على تطبيق ما جاء في كتاب الله، وعلى رأس هؤلاء عترة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولو أن الأمر ترك هكذا؛ كلٌّ يفعل ما يراه صوابًا دون مرجعية من العلماء العاملين الذين يقفون بالمرصاد لكل من أخطأ الطريق، لوجدنا أن الإسلام يتشعب بعدد الآراء والأهواء.
3- تمنع من عذاب الله عز وجل:
المسلم الفطن هو الذي يعرف كيف يقي نفسه من السوء، بل ويقي غيره منه، وأعظم السوء أن يحلَّ بقوم غضب الله وعقابه وانتقامه لذنوبٍ اقترفوها ولم يرجعوا عنها.
ولا يحل العذاب بقوم إلا إذا فشا فيهم المنكر، غير عابئين بنصح ناصح أو إرشاد مرشد، والطامة الكبرى أن يقع الجميع في المنكر ولا يوجد مَن يردهم عنه.
ولا شكَّ أن الذي يتحرك لتغيير المنكر هو الذي ينجيه الله- عز وجل- من سوء العذاب، ويتضح هذا من تلك القصة التي أمر الله- عز وجل- رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يذكِّر اليهود بها، فقال: ?وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165 (سورة الأعراف .
4- تحافظ على المجتمع من عوامل الضعف:
المجتمع البشري كالأفراد تمامًا بتمام؛ يصيبه ما يصيبهم، والعلاقة بين المجتمعات والأفراد علاقة طردية؛ فكلما حسنت حالة الأفراد حسنت حالة المجتمعات، والعكس بالعكس؛ لأن المجتمع ما هو إلا أفراد البشر الذين تجمعهم علاقات وروابط وأهداف واحدة، ويعيشون في صعيد واحد.
فإذا كانت الأهداف والغايات ساميةً، والوسائل مشروعةً، والتصورات واحدةً، والتعاون بين الأفراد قائمًا، فهذا مجتمع قوي يقوم على أسس سليمة متينة.
أما إذا انحطت الغايات، واستُخدمت الوسائل المشروعة وغير المشروعة، وحدث اختلاف في التصورات، فالنتيجة الحتمية أنه لا تعاون بين أفراد هذا المجتمع؛ مما يكون مؤشرًا على ضعفه.
فالإيجابية هي التي تبني الفرد بناءً سليمًا، وإذا شعر الفرد بمسئوليته تجاه مجتمعه أهمَّه ما قد يجده من سلبيات فيه، فيعمل على تغييرها أو إزالتها بالتعاون مع مَن ينتهجون نفس المنهج وتجمعهم نفس التصورات.
5- تُعرِّف المرء ما له من حقوق وما عليه من واجبات:
يعيش المرء في مجتمعه من خلال شبكة معقدة من العلاقات، ولا بد من وجود قواعد تنظِّم تلك العلاقات، والقاعدة المحكمة هي أن يعرف المرء ما له من حقوق وما عليه من واجبات؛ فلا يعيش ينتظر من الآخرين ما عليهم تجاهه من حقوق وينسى الواجبات المنوطة به، ولكن كما يأخذ يعطي، فلا ينتظر الولد- مثلاً- أن يلبيَ أبوه كل ما يرغب فيه، وفي المقابل يضن على أبيه ببرِّه والإحسان إليه، ولا ينتظر الزوج كذلك أن يأخذ حقوقه من زوجته كاملةً غير منقوصة دون أن يعترف بالواجبات المعلَّقة بعنقه تجاهها، وهكذا على كل المستويات والأصعدة.
فالسلبي هو الذي لا يرى لغيره حقوقًا عليه، وفي المقابل يحب أن يأخذ كل ما يراه حقوقًا مكتسبةً له، ويضيق صدره ويتبرم إذا قصَّر أحد معه أو منعه ما يراه حقًّا له.
روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه عين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاضياً على المدينة، فمكث عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة كاملة لم يختصم إليه اثنان، لم يعقد جلسة قضاء واحدة، وعندها طلب من أبي بكر الصديق إعفاءه من القضاء، فقال أبو بكر لعمر: أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟ قال عمر: لا يا خليفة رسول الله، ولكن لا حاجة لي عند قوم مؤمنين عرف كل منهم ما له من حق فلم يطلب أكثر منه، وما عليه من واجب فلم يقصر في أدائه، أحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، إذا غاب أحدهم تفقدوه، وإذا مرض عادوه، وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب عزوه وواسوه، دينهم النصيحة، وخلتهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيم يختصمون؟.
6- تجعل المرء يتحمَّل مصاعب الحياة ويتغلَّب عليها:
الحياة لا تسير دائمًا على وتيرةٍ واحدة؛ فيوم حلو وآخر مر، وكما قال الشاعر أبو البقاء الرندي:
لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ * * * فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ
هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ * * * مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ
والإنسان السلبي هو الذي تغلبه الأزمات، وتصرعه الملمات، وربنا- عز وجل- يأمر المسلمين بقوله: ?وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا? آل عمران: من الآية 139 , تهنوا: أي تضعفوا؛ فالوهن هو سبب تكالب الأعداء علينا؛ فالهزيمة داخلية قبل أن تكون خارجية، وهذا هو الواضح من قوله- صلى الله عليه وسلم-: \"يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا\". فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: \"بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ\" فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ.. وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: \"حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ . أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ح (21363)، وأبو داود في \"الملاحم\"، باب: \"في تداعي الأمم على الإسلام\"، ح (3745)، وصححه الألباني في \"صحيح سنن أبي داود\"، ح (4297).
فما قيمة العدد الكثير الذي لا يقوى على تحمُّل المشاق، وينكص على عقبيه عند ملاقاة الأهوال؟! وكما يقال: العبرة بالكيف لا بالكم، وهذا معلوم من قوله تعالى: ?كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ? (البقرة: من الآية 249.
فبتوطين المرء نفسَه على الجلَد والصبر والمثابرة يكون قد أخذ عُدَّته التي بها يلاقي أصعب الظروف وأحلكها، ويخرج من تلك المعركة منتصرًا ظافرًا.
وبالصبر الجميل حملت نفسي * * * فنلت به المآرب والخلالا
7- تمنع المرء من الوقوع في اليأس والقنوط:
من ذاق طعم الفشل عرف لذة النجاح، والنجاح كوميض البرق؛ ما يلبث أن يظهر حتى يختفي؛ فالمحافظة على النجاح تحتاج إلى صبرٍ ومثابرةٍ وعزم أكيد، وكما قيل: الوصول إلى القمة سهل، ولكن الحفاظ عليها هو الصعب.
قال تعالى على لسان يعقوب عليه السلام : ولا تيْأَسوا مِن رَوْحِ الله إنّه لا ييْأَسُ مِن رَوْح الله إلا القومُ الكافرون – يوسف 87 .
والمرء إذا أخطأ طريق النجاح مرةً لا بد أنه سيصيبها في مرة أخرى قادمة؛ فالمهم ألا نيأس وألا يدب القنوط في نفوسنا؛ فاليأس والقنوط عقبة كئود في طرق نجاح الدعوات، ولو أن كل صاحب دعوة ربانية أو غاية نبيلة أو هدف سامٍ قابلته مشكلة يترك ما يريد أو ما أُريد له من شدة الإحباط لما بُلِّغت الرسالات ولا عُرفَت الشرائع، ولنا الأسوة والقدوة في أصحاب الدعوات الربانيين من الأنبياء والرسل الذين واجهوا مجتمعاتهم المنحرفة عن النهج السليم وحدهم؛ فمنهم من فتح الله له القلوب بعد انغلاقها، ومنهم من لم يزدهم دعاؤه إلا فرارًا، ولكنه لم ييأس ولم يفتر حتى جاءه الفرج من الله عز وجل.
قال الشاعر :
اليأسُ في ديننا كُفْرٌ ومَنْقَصةٌ ,,,, لا يُنبِتُ اليأسَ قلبُ المؤمنِ الفَهِمِ
يَفيضُ من أملٍ قلبي ومن ثقةٍ ,,,, لا أعرٍفُ اليأسَ والإحباطَ في غَمَمِ
8- تساعد في نشر الدعوة الإسلامية:
المرء الشديد التمسك بما يؤمن به تجده جذوةً متقدةً لا تخبو، يحوِّل المكان من حوله من حالٍ إلى حال؛ نتيجةً لأثره فيه. وهذا الأمر تستوي فيه كل العقائد والأفكار حتى وإن كانت باطلة، فتجد النصرانية بها من يكون شديد الحماس لها ويبذل كل ما في وسعه ولا يألو جهدًا في أن يبشر بها، ونجد كذلك الشيوعيين وغيرهم ينشرون أفكارهم؛ لأنهم مؤمنون بها ومعتقدون فيها ومخلصون في العمل لها.
والعيب ليس فيمن يبشِّر بما يؤمن به حتى ولو كان باطلاً، ولكن العيب فيمن يكون على الحق ولا يدفعه ذلك إلى نشر دعوته بين الناس، رغم أنهم في أمسِّ الحاجة لها.
ولقد ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم مثلا ونموذجاً رائعاً في الايجابية , وقد ذكرت لنا كتب السيرة هذا الموقف الخالد الذي يدل على ايجابيته صلى الله عليه وسلم في مواجهة الأمور وهو أمر الإراشي الذي باع أبا جهل إبله.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان الثقفي, وكان واعية, قال: قدم رجل من أراش- قال ابن هشام: ويقال أراشة – بإبل له بمكة, فابتاعها منه أبو جهل, فمطله بأثمانها, فأقبل الأراشي حتى وقف على ناد من قريش, ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية المسجد جالس, فقال: يا معشر قريش, من رجل يؤديني على أبي الحكم بن هشام فإني رجل غريب, ابن سبيل, وقد غلبني على حقي, قال: فقال له أهل ذلك المجلس: أترى ذلك الرجل الجالس- لرسول الله صلى الله عليه وسلم, وهم يهزؤن به لما يعلمون بينه وبين أبي جهل من العداوة- اذهب إليه فإنه يؤديك عليه.
فأقبل الأراشي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا عبد الله, إن أبا الحكم بن هشام قد غلبني على حق لي قبله, وأنا (رجل) غريب ابن سبيل, وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤديني عليه, يأخذ لي حقي منه, فأشاروا لي إليك, فخذ لي حقي منه, يرحمك الله, قال: ((انطلق إليه)) وقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلما رأوه قام معه. قالوا لرجل ممن معهم: اتبعه فانظر ماذا يصنع, قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه, فضرب عليه بابه, فقال: من هذا؟ فقال: (( محمد فاخرج إلي)) فخرج إليه وما في وجهه من رائحة, قد انتقع لونه, فقال: (( أعط هذا الرجل حقه)) , قال: نعم, لاتبرح حتى أعطيه الذي له, قال: فدخل فخرج إليه بحقه فدفعه إليه (قال)’ ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال للأراشي: ((الحق بشأنك)) فأقبل الأراشي حتى وقف على ذلك المجلس, فقال: جزاه الله خيراً فقد والله أخذ لي حقي.
قال: وجاء الرجل الذي بعثوا معه, فقالوا: ويحك ماذا رأيت؟ قال: عجباً من العجب, والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه, فخرج إليه وما معه روحه, فقال له: أعطِ هذا حقه, فقال: نعم لا تبرح حتى أخرج إليه حقه, فدخل فخرج إليه بحقه, فأعطاه إياه, قال: ثم لم يلبث أبو جهل أن جاء, فقالوا (له) ويلك مالك والله ما رأينا مثل ما صنعت قط, قال ويحكم والله ما هو إلا أن ضرب عليّ بابي وسمعت صوته, فملئت منه رعبا, ثم خرجت إليه, وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط, والله لو أبيت لأكلني. ( السيرة النبوية لابن إسحاق 1/64 , دلائل النبوة للبيهقي 1/69 ).
ولقد اقتدى الصحابة الكرام بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك , فها هو الصديق أبو بكر رضي الله عنه حينما أسري بالنبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتدّ ناس. فمن كان آمنوا به وصدقوه وسمعوا بذلك إلى أبي بكر -رضي الله تعالى عنه-، فقالوا: هل لك إلى صاحبك، يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس، قال: أوَقال ذلك؟ قالوا: نعم. قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق.
قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح.
قال: نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة. فلذلك سمي أبو بكر الصديق. (الحاكم في مستدركه ج 3/ ص 66 حديث رقم: 4407 السلسلة الصحيحة 1/615 ).
يروى أن مسلمة بن عبد الملك كان في جملة من الجند يحاصرون إحدى قلاع الروم ، وكانت محصنة والدخول إليها صعباً إلا من نقب فيها تخرج منه أوساخ المدينة ، فوقف مسلمة ينادي في الجند : من يدخل النقب ويزيح الصخرة التي تحبس الباب ويبكر حتى ندخل فقام رجل قد غطى وجهه بثوبه وقال إنا يا أمير الجند ودخل النقب وفتح الباب ودخل الجند القلعة فاتحين .. وبعدها وقف مسلمة بين الجند ينادي عن صاحب النقد حتى يكرمه على ما فعل ، وكان يردد من الذي فتح لنا الباب فما يجيبه احد ! فقال أقسمت على صاحب النقب أن يأتيني في أي ساعة من ليل أو نهار . فطُرق باب مسلمة طارق ليلاً ، فيلقاه مسلمة مستبشراُ أنت صاحب النقب فقال الطارق هو يشترط ثلاثة شروط حتى تراه . قال مسلمة وما هي . قال : ألا ترفع اسمه لدى الخليفة ولا تأمر له بجائزة ولا تنظر له بعين من التمييز ، قال مسلمة افعل له ذلك . فقال الطارق أنا صاحب النقب وانصرف وترك جيش مسلمة ذاهبا إلى سد الثغور في أماكن أخرى\" ( ابن منظور : مختصر تاريخ دمشق 7/273 ) .
ولن يعود مجد المسلمين ولا عزتهم إلا إذا عادة لهم ايجابيتهم التي هي مصدر خيرتهم , قال تعالى :\" كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ \" ( آل عمران 111).
اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين اللهم يا ذا الأمر الرشيد والحبل الشديد أسألك الأمن يوم الوعيد والجنة يوم الخلود مع المقربين الشهود.
المسلم والإيجابية
د. بدر عبد الحميد هميسه