بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فقد
بنت المحكمة الإدارية العليا حكمها حول موضوع أداء الطالبات المنتقبات
للامتحانات بما صدر عن دار الإفتاء من القول بأن النقاب عادة ، وأنَّ بعض
المالكية قد ذهب إلى كراهته ، وهنا سأناقش هذه المسألة ، ونحرر قول
المالكية في الأمر ، لننظر بموضوعية في هذا القول
.
أولا :
أهل العلم اختلفوا في النقاب ما بين الاستحباب والوجوب، ومن له أدنى دراية بعلم أصول الفقه يعلم أن المستحب والواجب يجتمعان في طلب الشارع بفعلهما ويفترقان في أن الواجب يطلب فعله
على سبيل الحتم والإلزام، والمستحب يطلب فعله من
غير حتم ولا إلزام .
ثانيًا : أما أن الإمام مالك قد كره النقاب فنعم ، ولكن لمن ؟ إنه كرهه للمحرمة ، ولكنه لم يحرم عليها تغطية الوجه في الحج .
ففي المدونة لابن القاسم (2/461: " أن مالكا كان يوسع للمرأة أن تسدل
رداءها من فوق رأسها على وجهها إذا أرادت سترا فان كانت لا تريد سترا فلا تسدل"، فتأمل .
ونقل قول الإمام مالك هذا في ستر الوجه بحروفه ابن عبد في التهميد نقلا عن ابن القاسم. انظر كتاب (التمهيد، 8/28)
فهذا مذهب مالك في تخمير (أو تغطية) الوجه بالنسبة للمرأة المحرمة التي قد نهيت عن لبس
النقاب.
وبالمثل إن كان قد جوَّزَ للمحرمة التي مُنعت من لبس النقاب أن تغطي وجهها فمن باب أولى غير المحرمة .
ثالثا : ذكر ابن تيمية ( مجموع الفتاوى (22/110) : أن مالكا يقول : " أنَّ كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها"
، وعليه فإنَّ النقاب يصبح واجبا عند الإمام.
رابعًا : للامانة العلمية المشهور من مذهب مالك هو أن الوجه والكفيين ليسا بعورة. وهذا هو الصحيح من مذهبه فإننا نأبى أن نكون مدلسين. ولكن هذا لا ينافي جواز الستر؛ إذ أن ستر الوجه ليس متعلق بكونه عورة .
قال الشيخ صالح عبد السميع الآبي الأزهري (جواهر الإكليل ـ 1 / 41 ) : عورة الحرة مع رجل أجنبي مسلم جميع جسدها غير الوجه والكفين ظهرًا وبطنًا ، فالوجه والكفان ليسا عورة ، فيجوز كشفهما للأجنبي ، وله نظرهما إن لم تُخشَ الفتنة . فإن خيفت الفتنة
فقال ابن مرزوق : مشهور المذهب وجوب سترهما
.
وقال عياض : لا يجب سترهما ويجب غضُّ البصر عند الرؤية . وأما الأجنبي
الكافر فجميع جسدها حتى وجهها وكفيها عورة بالنسبة له » اهـ .
وقد
روى الإمام مالك في موطأه عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت: "كنا نُخمّر
وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق" [قال الألباني
إسناده صحيح]
قال
الزرقاني في شرحه للموطأ
: زاد في رواية: "فلا تنكره علينا"، لأنه يجوز للمرأة المحرمة ستر وجهها
بقصد الستر عن أعين الناس، بل يجب إن علمت أو ظنت الفتنة بها، أو يُنظر لها
بقصد لذة .
خامسًا : ذكر عن ابن المنذر أنهم: أجمعوا على أن لها أَنْ تُسدل علي وجهها الثوب سدلًا خفيفًا تستتر به عن نظر الرجال، ولاتُخَمِّر، إلا ما روي عن فاطمة بنت المنذر، فذكر ما هنا، ثم قال : "ويحتمل أن يكون ذلك التخمير سدلًا، كما جاء عن عائشة قالت: "«كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مُرَّ بنا سَدَلْنا الثوب على وجوهنا ونحن محرمات، فإذا جاوزْنا رفعناه»" اهـ.
فتأمل كيف أنَّ النساء في عهد النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم كن يغطين وجوههن في الإحرام ولم يكن ينكر المعصوم عليهم هذا الفعل .
سادسًا : حكى
ابن عبد البر أيضا في التمهيد (8/23) الإجماع على جواز تغطية المرأة
لوجهها بسدل ثوبا عليه تستتر به عن الرجال... فأين الكراهية المزعومة؟
!!.
أما
أبو بكر ابن العربي المالكي فيقول في (أحكام القرآن) أن: "سترها وجهها
بالبرقع فرض إلا في الحج، فإنها ترخي شيئاً من خمارها على وجهها غير لاصق
به وتعرض عن الرجال ويعرضون عنها ".
ويقول
أيضا -رحمه الله -: "والمرأة كلها عورة، بدنها وصوتها فلا يجوز كشف ذلك
إلا لضرورة أو لحاجة: كالشهادة، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عمَّا يعنّ
ويعرض عندها ".
فتأمل؛
قوله : " سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج"؛ فهذا مذهب إمام من أئمة
المالكية؛ وهو مع هذا يمنعها من لبس النقاب حال الإحرام، ثم انظر كيف ينسب
للإمام مالك القول بالكراهة مطلقا... سبحان الله .
وروى
البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: "يرحم الله نساء المهاجرات
الأول لما أنزل الله : " وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ
"، شققن مروطهن فاختمرن به ".
قال الحافظ ابن حجر "فاختمرن أي غطّين وجوههن
".
قال
الشنقيطي المالكي في (أضواء البيان، 6/250) : وهذا الحديث الصحيح صريح في
أن النساء الصحابيات المذكورات فيه فهمن أن معنى قوله تعالى :
"وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ" يقتضي ستر وجوههن
وأنهن شققن أزرهن فاختمرن أي سترن وجوههن بها امتثالاً لأمر الله المقتضي
ستر وجوههن .
سابعًا : يقول الشيخ الحطَّاب في (مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، 1/ 499) ـ وهو من مشاهير كتب المذهب المالكي ـ
: " اعلم أنه إن خُشي من المرأة الفتنة يجب عليها ستر الوجه والكفين. قاله القاضي عبدالوهاب، ونقله عنه الشيخ أحمد زرّوق في شرح الرسالة، وهو ظاهر التوضيح. هذا ما يجبعليها" اهـ .
وذكر
البناني في حاشيته على شرح الزرقاني
لمختصر خليل (1/ 176)، وفي حاشية الصاوي على الشرح الصغير(1/289) أنه حين
خوف الفتنة أو النظر إلى المرأة بقصد لذة قال: "وهل يجب عليها حينئذٍ ستر
وجهها؟، وهو الذي لابن مرزوق في اغتنام الفرصة قائلًا: إنه مشهور المذهب،
ونقل الحطاب أيضًا الوجوب عن القاضي عبد الوهاب، أو لا يجب عليها ذلك،
وإنما على الرجل غض بصره، وهو مقتضى نقل مَوَّاق عن عياض ".
وقال القرطبي المالكي في تفسيره (12/ 205): "قال خُويز منداد من علمائنا: إن المرأة اذا كانت جميلة وخيف من وجهها وكفيها الفتنة،
فعليها ستر ذلك" اهـ
قال
الآبي الأزهري في جواهر الإكليل، 1/41: الوجه والكفان ليسا عورة، فيجوز
كشفهما للأجنبي، وله نظرهما إن لم تُخشَ الفتنة. فإن خيفت الفتنة فقال ابن
مرزوق: مشهور المذهب وجوب سترهما. وقال عياض: لا يجب سترهما ويجب غضُّ
البصر عند الرؤية. وأما الأجنبي الكافر فجميع جسدها حتى وجهها وكفيها عورة
بالنسبة له" اهـ .
وقال الشيخ الدردير في " الشرح الكبير، 2/55 : "حرم بالإحرام
بحج أو عمرة أي بسببه (على المرأة)... (ستر وجه) أو بعضه (إلا لستر) عن أعين الناس فلا يحرم بل يجب إن ظنت الفتنة بها" اهـ...
فتأمل فإنما حرم النقاب للإحرام مع جواز ستر الوجه بل الوجوب في حال خوف الفتنة
هذه
جملة من أقوال أئمة المالكية بالإضافة لصريح قول الإمام وهي تدور بين
الوجوب مطلقا كما هو مذهب القاضي ابن العربي؛ والوجوب مقيدا بخوف الفتنة
كما ذكر أنه مشهور المذهب؛ والجواز الذي
يوافق الاستحباب بجامع السماح في الترك دون لوم. فأين تلك الكراهة ؟؟؟
فنسأل
الله تعالى العفو والعافية ، ونعوذ به من فتنة المحيا والممات ، ونعوذ
بالله من فساد القلوب ، ومن آفات النفوس ، وممن يسعى في الأرض ليفسد فيها ،
ونستنصر بك ربنا فلا تخيب فيك رجاءنا ، فكن لهؤلاء العفيفات ناصرا ومؤيدا ،
وجارا من أذي كل ذي أذى .
والله المستعان