الاستخلاف في الأرض للشيخ صلاح بن محمد البدير
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
المدينة المنورة
1/3/1424
المسجد النبوي
ملخص الخطبة
1- الغاية من الاستخلاف في الأرض. 2- فتنة الاستخلاف في الأرض. 3- إهلاك
الله تعالى للأمم المستخلَفة من قبلنا. 4- حياة الرخاء ورغد العيش. 5-
انتشار المعاصي والمنكرات في المجتمع المسلم. 6- حملة التغريب. 7- التذكير
بالموت والحث على التوبة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيّها المسلمون، ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱرْجُواْ ٱلْيَوْمَ
ٱلآخِرَ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ٱلأرْضِ مُفْسِدِينَ [العنكبوت:36]،
وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ وَٱلْجِبِلَّةَ ٱلأوَّلِينَ [الشعراء:184]،
خلقكم الله بقدرتِه، وجعلكم خلائفَ في الأرض بحكمتِه، وسخَّر لكم زينتَها
برحمتِه، وبوَّأكم في الأرض تتَّخذون من سهولِها قصورًا، واستعمَركم فيها
دُهورًا، بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا. بيدِه ملكُ الدّنيا والآخرة
وسلطانُهما، نافذٌ أمره وقضاؤه فيهما، لا يمنعه مانِع، ولا يحول بينه وبين
ما يريد قاطِع، قُلِ ٱللَّهُمَّ مَـٰلِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِى ٱلْمُلْكَ مَن
تَشَاء وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ
مَن تَشَاء بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [آل
عمران:26].
استخلفكم في هذه الأرض لإقامة أحكامِه، وتنفيذ أوامرِه، وتحكيم شريعتِه،
وتوحيده وطاعتِه، ٱلَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـٰهُمْ فِى ٱلأرْضِ أَقَامُواْ
ٱلصَّلَوٰةَ وَاتَوُاْ ٱلزَّكَـوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ
عَنِ ٱلْمُنْكَرِ [الحج:41]. هذا هو العهدُ والميثاق، من وفَّى به حصَّل
سعادةَ الدنيا وطيبها، وأمِن شقاءها وخوفَها، ومن نقضَه لقي وَبيء مخالفتِه
وعاقبةَ غوايته وشقاءَ جهالته.
خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً
[الملك:2]، ليبلوكم أيّكم له أطوَع، وإلى مرضاته أسرَع، وعن محارمِه أورع،
وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ
يَكُونُواْ أَمْثَـٰلَكُم [محمد:38]، وَرَبُّكَ ٱلْغَنِىُّ ذُو ٱلرَّحْمَةِ
إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَا
أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيَّةِ قَوْمٍ ءاخَرِينَ [الأنعام:133]، إِن يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأْتِ بِـآخَرِينَ وَكَانَ ٱللَّهُ
عَلَىٰ ذٰلِكَ قَدِيراً [النساء:133]، قادرٌ عليه، ويسيرٌ عليه، وَمَا
أَنتُم بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134].
تلك حقيقةٌ يبدئ فيها القرآنُ ويُعيد، ويكرِّرها كثيرًا ويَزيد، فما أغفَلَنا عنها، وما أحوجَنا إليها.
أيّها المسلمون، إنَّ نعمةَ الاستخلاف في الأرضِ والعيش في أرجائها والمشيِ
في مناكبها فتنةٌ وابتلاء، وليس أعظم من فتنة النّعماء وامتحان السراء؛
لأنّ الرخاءَ يُنسي، والمتاع يُلهي والثّراء يُطغي، في دُنيًا مستطابة في
ذوقها، معجبة في منظرِها، مونِقة في مظهرها، الفتنةُ بِها حاصِلة، وعدمُ
السلامة منها غالبَة، يقول رسول الهدى : ((إنّ الدنيا حلوةٌ خضِرة، وإنّ
الله مستخلفُكم فيها فينظرَ كيف تعملون، فاتّقوا الدنيا، واتّقوا النساء،
فإنَّ أوَّل فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) أخرجه مسلم[1]، يقول الإمام
النووي رحمه الله تعالى: "معنى ((مستخلفكم فيها)) أي: جاعلُكم خلفاءَ من
القرون الذين من قبلكم، فينظر هل تعملون بطاعته أم بمعصيتِه وشهواتِكم"[2].
أيّها المسلمون، ها أنتم خلفاءُ في الأرض للماضين ووُرَّاثٌ للسّابقين
وسُكَّان في بلاد الغابرين، وها هي مساكنُهم عيانٌ للنّاظرين، ثُمَّ
جَعَلْنَـٰكُمْ خَلَـٰئِفَ فِى ٱلأرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ [يونس:14]، كيف تحكمون؟ وأيَّ شيء تصنعون؟ وما تعمُرون؟ تطيعون
أم تعصون؟ تتّقون وتشكرون أم تجحَدون وتكفُرون؟
قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية: ثُمَّ جَعَلْنَـٰكُمْ
خَلَـٰئِفَ فِى ٱلأرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فقال
رضي الله عنه: (قد استُخلفتَ يا ابن أمِّ عمر، فانظُر كيف تعمل)[3]، وقال
رضي الله عنه: (صدَق ربّنا، ما جعَلَنا خلفاءَ إلا لينظرَ كيف أعمالُنا،
فأَرُوا الله من أعمالكم خيرًا بالليل والنهار سرًّا وعلانية)[4].
ويقول جلّ في علاه: عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ
وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى ٱلأرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ
[الأعراف:129]، ينظرُ كيف يعمَل الغني في غناه، وذو الجاه فيما أعطاه، وذو
الصّحّة فيما آتاه، أطاعَه أم عصاه؟ ينظر هل تتصرَّفون في الأرض بالحقّ أم
بغير ما ارتضى؟
أيّها المسلمون، لقد استخلفَ الله أُممًا في الأرض سنينَ عددًا، ولبِثوا
على هذه البسيطة أمَدًا، فلم يراعوا له عهدًا، وقد أراد بهم ربُّهم رشدًا.
قصَّ الله علينا من أخبارِهم وأبنائهم ما فيه عبرةٌ للمعتبرين وازدجار
للظالمين وموعظةٌ للمتّقين، قال الله عنهم: وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِم
مّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَـٰسِقِينَ [الأعراف:102]، لم
يكونوا أوفياء، لم يكونوا أُمناءَ، بل كانوا مَرَقة فَسَقة، خارجين عن
الطّاعة والامتثال إلى المعصيةِ والضّلال، أممٌ سادتْ ثمّ بادت، قادت ثم
فادَت، مَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ [الشعراء:207].
فحذار حذار أن يكونَ لنا من حالِهم نصيب، حذارِ حذار أن تعصُوا الله في
بلادِه أو تضادُّوه في مرادِه، فإنَّ الأرضَ لله يورثها من يشاء من عبادِه.
أيّها المسلمون، إنّكم ترفلون في نِعم وافرةٍ وخيرات زاخِرة وحياة فاخِرة،
مُعجزٌ شكرُها، مُعوِز حصرُها، أرزاقٌ دارّة، ومعايش قارّة، تألّقٌ في
المطعومات، وتفنُّن في الملبوسات، وتنوّعٌ في الملذّات، فهل قمتُم بشكر من
أنعَم بها واستخلفكم فيها، أم عصيتموه في أرضه وتحت سمائه، وأنتم تنعمون من
رزقه وتستمتِعون بنعمه؟!
أيّها المسلمون، من الذي أمَّننا في الدور؟! من الذي أرخى علينا السّتور؟!
من الذي صرَف عنّا البلايا والشرور، والفتنةُ حولنا تدور؟! أليس الرّحيم
الغفور؟! فما لنا قد كثُرت منّا العِثار، وقلَّ منا الاعتبار والادِّكار؟!
ما لنا لبِسنا ثوبَ العصيان والغفلة والنّسيان؟! غرَّنا بالله الغرور،
برجاء رحمتِه عن خوف نقمتِه، وبرجاء عفوه عن رهبةِ سطوته.
ها هي البيوتُ قد مُلئت بالمنكرات فما دفعناها، ها هي المعاصي كثُرت في
المجتمعات فما منعناها، ترخُّصٌ بَغيض، وتساهلٌ مُقيت، واستهتار مُميت،
فأينَ تعظيمُ شعائر الله يا من تعصون؟! أين الوقوفُ عند حدود الله يا من
تعتَدون؟! أين الذين هم لربِّهم يَرهبون؟! أين الذين هم من خشيةِ ربِّهم
مشفِقون؟! أين الخوفُ والوجل؟! أين الخشيةُ من سوءِ العمَل؟! لقد قُوِّض
بنيانُ العفاف، وطُوِّحت جُدران الفضائِل، جِيلٌ في ريَعان الشّباب وغضاضة
الإهاب قد ارتَضع لبانَ سوء، وسقط في مستنقَعٍ موبوء، فمن الذي أوردَه
معاطبَ الهلاك؟! من الذي أسقطه في تِلك الأشواك والأحساك؟! ما أشدَّ
المفارقةَ وأبعدَ المشابهة بين الأمسِ واليوم، هُوّة عميقةٌ وبَون واسعٌ
وفرق شاسع.
أيّها المسلمون، إنَّ أجيالنا اليومَ تتعرَّض لسُعار الفسادِ وطغيان
التّغريب وداءِ التّمييع والإهمال، وسيسألنا الله عن تضييع هذه الأجيال،
فهل أعدَدنا جوابًا؟! وهل سيكون الجواب صوابًا؟! يقول رسول الهدى : ((كلّكم
راع، وكلّكم مسؤول عن رعيّته، فالأمير راع، والرّجل راعٍ على أهل بيته،
والمرأة راعية على بيت زوجها وولدِه، فكلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن
رعيّته)) أخرجه البخاري[5].
أيّها المسلمون، إذا فشِلنا في هذا الجِهاد جهادِنا مع أنفسنا وإصلاحِ
مجتمعاتنا وأجيالِنا فسنفشل في كلّ ميادين القتال وساحات النزال، إنَّ كلَّ
الضّرباتِ الموجِعة والهزائم المتتابعة والنّكسات المُفظِعة التي نتلقّاها
يومًا بعد يوم إنّما هي بسببِ إضاعتِنا للعهد الذي استخلفَنا الله
لتحقيقه، ومكَّننا في هذه الأرض لتطبيقِه.
إنّ على الأمّة أن تطرحَ عنها الأمنَ الكاذب والغفلةَ المردِية، وأن
تتَّعِظ بتجاربِ البشر، وأن لا تغترَّ بطراءَة العيش ورخاءِ الحياة، فإنّ
سنّةَ الله لا تتخلّف ولا تتوقّف، أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ
ٱلأرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أي: أوَلم يتبيَّن لهم أَن لَّوْ نَشَاء
أَصَبْنَـٰهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ
يَسْمَعُونَ [الأعراف:100].
فمَن ينصرُنا من بأس الله إن جاءنا؟! فتأهَّبوا بالتّوبة، واستحصِنوا
بالأوبَة، وكونوا لدِين الله أنصارًا، ووالُوا ضراعةً إلى الله وجؤارًا،
واستغفِروا ربَّكم إنّه كان غفارا. فالتَّوبة تدفع عنكم ما لا يدفعه
السّلاح، وتمنع عنكم ما لا يمنعه التشدُّق والصّياح، وَعَدَ ٱللَّهُ
ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلأرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ
وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ
يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ
ٱلْفَـٰسِقُونَ [النور:55]. فالأرض إرثٌ، والمطامع جمَّة، كلٌّ يهشُّ إلى
التماسِ نصيب، وخلائفُ التّقوى هم ورَّاثُها بالفرضِ والتّعصيب.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآي والبيان،
أقول ما تسمعون، وأستغفر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب،
فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2742) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
[2] شرح صحيح مسلم (17/55).
[3] أخرجه ابن جرير في تفسيره (11/94).
[4] أخرجه ابن جرير في تفسيره (11/94) وفي سنده انقطاع.
[5] أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
الخطبة الثانية
الحمد لله ذي الحجج البوالِغ والنّعم السوابِغ والنقم الدّوامِغ، حمدًا
يحفظ النعمَ من الزوال، ويحرسها من التغيّر والانتقال، وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، صدع
بالرسالة، وأوضح في الدلالة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا
كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله وراقبوه، اتّقوا الله فإنَّ
تقواه أفضلُ مكتسَب، وطاعته أعلى نسب، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ
ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم
مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيّها المسلمون، دارُكم هذه دارُ ممرّ وليست بدار مقرّ، فلا ترضَوا بالدّون
وصفقةِ المغبون، وهلمّوا إلى دار الأفراح ولذّة الأرواح، فما متاعُ الحياة
الدنيا في الآخرة إلاّ قليل، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله :
((يُؤتَى بأنعَم أهلِ الدّنيا من أهل النّار يوم القيامة، فيصبَغ في النّار
صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قطّ؟ هل مرَّ بك نعيم قطّ؟
فيقول: لا والله يا ربّ. ويؤتَى بأشدِّ النّاس بؤسًا في الدّنيا من أهل
الجنّة، فيصبَغ صبغة في الجنّة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسًا قطّ؟
هل مرِّ بك شدّةٌ قطّ؟ فيقول: لا والله يا ربّ، ما مرَّ بيَ بؤس قطّ، ولا
رأيتُ شدّةً قطّ)) أخرجه مسلم[1].
فيا أيّها المسلمون، هذا بابُ التّوبة مفتوح، هذا زمنُ التّصحيح ممنوح، ما لم تغرغِر الرّوح.
أيّها التائِه في بيداء الغَفَلات، يا مَن ترخَّص لشهواتِه وذلّ لنزغاتِه،
يا مَن ألحَّت عليه النّصائح فما أقلع، لن تعيشَ الدّهرَ ترأس وتربع،
وتنهبُ وتجمَع، وتحرُث وتزرَع، وتأكل وترتَع، وتلهو وتتمتَّع، سوفَ تموت
وتسأل عمَّا كنتَ تصنع، و((لن تزولَ قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن
أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟
وفيم أنفقَه؟ وماذا عمل فيما علِم؟))[2]، يقول رسول الهدى في حديث الرؤية:
((فيلقى العبدَ فيقول الله: أي فُل ـ أي: يا فلان ـ، ألم أكرِمك وأسوِّدك
وأزوِّجك وأسخِّر لك الخيلَ والإبل وأذرْك ترأس وتربَع؟! فيقول: بلى،
فيقول: أفظننتَ أنّك ملاقيّ؟ فيقول: لا، فيقول: فإنّي أنسَاك كما نسيتَني.
ثمّ يلقى الثّاني، فيقول: أي فُل، ألم أكرمك وأسوِّدك وأزوِّجك وأسخِّر لك
الخيل والإبلَ وأذرْك ترأس وتربَع؟! فيقول: بلى أي ربّ، فيقول: أفظننتَ
أنّك ملاقيّ؟! فيقول: لا، فيقول: فإنّي أنساك كما نسيتَني. ثمّ يلقى
الثّالث، فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا ربّ، آمنتُ بك وبكتابِك وبرسُلك
وصلَّيت وصمتُ وتصدقتُ ويُثنِي بخير ما استطاع، فيقول: ها هنا إذًا ـ أي:
قف ها هنا ـ، ثمّ يقال له: الآن نبعَث شاهدَنا عليك، ويتفكَّر في نفسه: من
الذي يشهد عليّ؟ فيُختَم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطِقي،
فتنطقُ فخذه ولحمه وعظامُه بعملِه، وذلك ليعذِر من نفسِه، وذلك المنافِق،
وذلك الذي يسخَط الله عليه)) أخرجه مسلم[3].
فخلِّص نفسَك يا عبد الله، خلِّص نفسَك من جحيم الذّنوب والأوزار ودروبِ
العَار والشّنار، واستدرِك ما دُمتَ في زمن الإنظار، قبل أن لا تقال
العِثار، فما هي إلا جنّة أو نار. وطوبى لمن فاء في هذا اليوم واعترف،
وأقلع عمَّا اقترف، وانتهى فغفر الله له ما سلف، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ
ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن
يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن
تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِىَّ وَٱلَّذِينَ
ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَبِأَيْمَـٰنِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَٱغْفِرْ
لَنَا إِنَّكَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التحريم:8].
أيّها المسلمون، إنَّ ثمرةَ الاستماع الاتّباع، فكونوا من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنَه.
وصلّوا وسلِّموا على خير الورى امتثالاً لأمرِ المولى جلّ وعلا: إِنَّ
ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا
ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً
[الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على النبيّ المصطفى المختار، اللهمّ صلِّ عليه وعلى الآل والصّحب الأخيار.
اللهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشركَ والمشركين والكفرةَ الملحدين...
[1] أخرجه مسلم في صفة القيامة (2807).
[2] أخرجه الترمذي في صفة القيامة، باب: ما جاء في شأن الحساب والقصاص
(2417)، والدارمي في المقدمة، باب: من كره الشهرة والمعرفة (537)، وأبو
يعلى (7434)، والطبراني في الأوسط (2191) من حديث أبي برزة الأسلمي رضي
الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وله شواهد كثيرة، وقد صححه
الألباني في السلسلة الصحيحة (946).
تنبيه: وقع في فتح الباري (11/414) عزو هذا الحديث إلى صحيح مسلم، فلعله
سهو من الحافظ رحمه الله، فإن الحديث لم يخرجه مسلم، ولم يعزه المزي في
تحفة الأشراف إلا إلى الترمذي، والله أعلم.
[3] أخرجه مسلم في الزهد (2968) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه