جهاز الشورى نظام الامان للمجتمع المسلم
قبل البدء في المسير
إذا كانت الشورى واجبة كما قرر ذلك القرآن، فلماذا رضي الكثير من أبناء الأمة بالتَّنازل عنها في حكم دولتهم، وسكتوا بذلك على كلّ جبّار متكبّر، وأيّدوا المتغلّب, وبايعوا الحكام جميعهم، صالحهم وطالحهم، صغيرهم وكبيرهم, حتى كان للمسلمين خلفاء رضّع لما يبلغوا مرحلة الطّفولة… ناهيك عن البلوغ, ناهيك عن الرشد والخبرة، وصاروا يخرجون لهم العذر تلو الآخر، ويبحثون عن مخرجٍ فقهيّ لتقرير تلك الأوضاع، وبعد أنْ كان العلماء يؤيّدون الخلفاء ما أقاموا فيهم الصلاة، ولم يجهروا بالمنكر، وأمروا بالمعروف, وأقاموا الدعوة للإسلام ظل هناك تنازل رهيب في المطلوبات من الحكام حتى نرى الفقيه الباقلانى يقرّ بإمامة الحاكم, ولو قتل النّفوس وغصب الأموال, وضيّع الحقوق, وعطّل الحدود, ودعا إلى معصية, كما ذكر ذلك د. عبد الله النفيسي في بحثه القيّم “الفكر السياسي الإسلامي في ضوء كتاب الغياثي”.
سبحان الله!, أيّ شيء بقي لنا بعد كل هذا؟، قتلٌ وغصبٌ وضياعٌ للحقوق, وتعطيلٌ للحدود, ودعوة إلى معصية, فماذا تبقّى من الأمّة إذًا!.
إذا كانت الشورى هي فلسفة الحكم في الإسلام كما يوضّح ذلك الدكتور محمد عمارة، فما هي الفلسفة أو الفكرة التي تقوم عليها الشورى نفسها في الإسلام؟
هناك أبحاث ومؤلفات كثيرة لعلمائنا الفضلاء عن الشورى, ولكنَّها مازالت تحتاج إلى جهدٍ كبير, وعمل متواصل, حتى تتمكن الكتابات السياسية للوصول بفكرة الشورى إلى نظام سياسي يدفع المسلمين إلى التمسّك بحقّهم في اختيار حكامهم، ومحاسبتهم، وكذلك كنظام يمكن تسويقه أمام العالم على أنه النموذج الإسلامي السياسي، والخروج من ربقة الكتابات التنظيريَّة لعقودٍ من الزمان دون طرح برنامج سياسي يعرَف الناس بما يمكننا فعله, لننقذ البلاد من ربقة الاستبداد وذل الاستعباد.
وقبل أنْ نشرع في بيان الشورى وأزمتها في الواقع المعاصر, وكيفيَّة تحويلها لنظامِ أمان للمجتمعات الإسلاميَّة, لابد أن نجيب على بعض الأسئلة التي طرحها الكثير من المفكّرين والباحثين والعلماء، وهي أساسٌ لكلّ من أراد أن يتعرَّفَ على الشورى كمخرج حتمي لما نحن فيه، وهي ما نتركها للقارئ لكي يخلو بها مع نفسه ولعلها تفتح مجالاً للحوار معه.
ما هي الشورى, وما هي أشكالها وأنواعها, وما هو مناطها, وما هي فلسفتها؟
هل تعريف الشورى لباسًا فضفاضًا يمكن أن يتم تركيبه على كل الأنظمة, وكل الدول والحكومات, فكانت الخلافة الراَّشدة شورى والملك العضود كان شورى؟
هل يتم مساواة الحاكم المتولّي عن طريق الشورى, بولاية المتغلّب, واعتبار أنَّ بيعة العلماء له نوع من الشورى, ثم كيف يمكن أن نساوي هذه بتلك؟
هل تخضع الشورى لمعايير محدَّدة, بحيث نستطيع من خلالها الحكم على الدّول التي تعتمد نظام الشورى من الدول الكلاميَّة الديكتاتوريَّة، فمثلاً إذا نظرتَ إلى كتب التاريخ فإنَّ العلماء يعتبرون استشارة الواحد شورى, والاثنين شورى, والمائة كذلك, وإذا أخذ برأيهم فالشورى ملزمة, وإذا لم يأخذ فهي معلمة, وكل أنواع هذا الكلام التي شوشت على الأمّة عقودًا وقرونًا من الزمان, وهل يمكن التوفيق بين تلك الأقوال للخروج بمنظومة علميَّة متكاملة؟
لماذا حتى الآن لم نرَ نظريَّة علميَّة لعالمٍ أو مفكّر أو هيئة, توضح فيها آليات ثابتة أو مقترحة للشورى، وتقوم بعرضها على أنَّها حلول إسلاميَّة, وهل يمكن الاقتباس من الغرب أو من أي نظام آخر؟
هل يمكن أن تساهم الشورى في مرحلة توعية الشعوب بأحقيتها في حكمٍ يقوم على رأيها وأداء حقوقها عليه ولها الحق في اختيار من يحكمها؟
أليس للمسلمين الحق في أن يختار علماءهم من يمثلهم, مثل الأزهر الشريف, والإفتاء والأوقاف, وإذا كانت الهيئات الإسلاميَّة مبتلاة بداء التعيين فماذا تنتظر من الشعوب وباقي الهيئات؟
كيف يتعلَّم الطفل الشورى، وهو تم تربيته بالقهر في بيته وبفرض الآراء عليه، ولا يشارك في صنع القرار في بيته، ثم نريد أن يشارك في صنع القرار في بلده ومجتمعه؟
الكل يعرف ما هي الشورى ولكن ما هي فلسفة الشورى الحقيقيَّة بحيث يصير العبد لا سلطان عليه إلا لله عز وجل؟
ما أوجه الفرق والتشابه بين الشورى والديمقراطية؟ وهل ما بينهما علاقة تكامل وتصالح أم تخاصم وافتراق؟، وهل يمكن تطبيق الآليات الديمقراطية واستخدامها كنظام إسلامي؟
ما هي أسباب الخلاف بين دعاة الشورى ودعاة الديمقراطية؟
هل هناك نظريَّة عامَّة للشورى وما هو محور هذه النظرية إن وجدت؟
[*]هل هناك علاقة بين فقدان الشورى في العالم العربي والإسلامي, وبين تبديد كل أسباب الارتقاء والتقدّم, وبين تفشّي الظلم وزيادة معدل الفساد بمتوالية ملحوظة عصرًا بعد عصر؟
إنَّ شيخ الأمّة محمد الغزالي يقول كلامًا يوضّح حقيقة الموقف المرتبك حول الشورى, فيقول: “إنّ الاستبداد السياسي داء دوى وليس أسوأ منه إلا تجاهل أثره والتعامي عن خطره!، وللشورى مفهوم غامض عند بعض المتحدثين الإسلاميين، ومفهوم مضاد لحقيقتها عند بعضٍ آخر، ولو وقع زمام الأمور في أيديهم لأعادوا حكم الملك الغوري في القاهرة، أو السلطان مراد في الأستانة، وأحدًهم ذكاءً من يعيد السلطة لصاحب الكلمة الفاجرة (أمير المؤمنين هذا، فإن هلك فهذا، فمن أبى فهذا – مشيرا إلى سيفه- !!!
وهذه الميوعة في مفهوم الشورى الإسلاميَّة لا تزيد المسلمين إلا خبالاً وفوضى… وسببها قلة الفقهاء أو انعدامهم في ميدان الدعوة، وازدحام هذا الميدان بذوي المعلومات الكاسدة أو التجارب القليلة أو الحماس الأجوف..”.
إنَّ الموقف الغريب والمحيّر للمسلم في العصور المتأخّرة يبعث على التأمّل والبحث في الأسباب التي أدت بنا إلى هذه الحال، يقول الكواكبي رحمه الله في الفرق بين الإنسان الشرقي والإنسان الغربي: “وهكذا بين الشرقيين والغربيين فروق كثيرة، قد يفضل في الإفراديات الشرقي على الغربي، وفي الاجتماعيات يفضل الغربي على الشرقي مطلقًا. مثال ذلك: الغربيون يستحلفون أميرهم على الصداقة في خدمته لهم والتزام القانون. والسلطان الشرقي يستحلف الرعية على الانقياد والطاعة! الغربيون يَمنّون على ملوكهم بما يرتزقون من فضلاتهم، والأمراء الشرقيون يتكرَّمون على من شاؤوا بإجراء أموالهم عليهم صدقات! الغربي يعتبر نفسه مالكًا لجزءٍ مشاع من وطنه، والشرقيّ يعتبر نفسه وأولاده وما في يديه ملكًا لأميره!”.
ويضيف الكواكبي: “الغربي له على أميره حقوق، وليس عليه حقوق؛ والشرقي عليه لأميره حقوق وليس له حقوق! الغربيون يضعون قانونًا لأميرهم يسري عليه، والشرقيون يسيرون على قانون مشيئة أمرائهم! الغربيون قضاؤهم وقدرهم من الله؛ والشرقيون قضاؤهم وقدرهم ما يصدر من بين شفتي المستعبدين! الشرقي سريع التصديق، والغربي ينفي ولا يثبت حتى يرى ويلمس. الشرقي أكثر ما يغار على الفروج كأنَّ شرفه كلّه مستودَعٌ فيها، والغربي أكثر ما يغار على حريته واستقلاله! الشرقي حريصٌ على الدين والرياء فيه، والغربي حريصٌ على القوة والعزّ والمزيد فيهما!.. والخلاصة: أنَّ الشرقي ابن الماضي والخيال، والغربي ابن المستقبل والجد!..”
منقول نظرا لاهميه الموضوع