تَبَارَكَ ٱلَّذِيۤ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذٰلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً }
قوله تعالى: {تَبَارَكَ ٱلَّذِيۤ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذٰلِكَ...} الآية. [10].
أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم المقرىء، قال: أخبرنا أحمد بن أبي الفرات قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن يعقوب البخاري، قال: أخبرنا محمد بن حميد بن فَرْقَد، قال: حدَّثنا إسحاق بن بشر، قال: حدَّثنا جُوَيْبر عن الضّحاك، عن ابن عباس قال:
لما عيَّر المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة {وَقَالُواْ مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي ٱلأَسْوَاقِ} - حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل عليه السلام من عند ربه معزِّياً له، فقال: السلام عليك يا رسول الله، رب العزة يقرئك السلام ويقول لك: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي ٱلأَسْوَاقِ} أي يبتغون المعاش في الدنيا.
قال: فبينا جبريلُ عليه السلام والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يتحدثان، إذ ذاب جبريل عليه السلام حتى صار مثل الهُردَة - قيل: يا رسول الله، وما الهُرْدة؟ قال: العدسة - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك ذُبْتَ حتى صرت مثل الهُرْدَةِ؟ فقال: يا محمدُ، فُتح باب من أبواب السماء ولم يكن فتح قبل ذلك اليوم، وإني أخاف أن يعذِّب قومُك عند تعييرهم إياك بالفاقَة. فأقبل النبي وجبريل عليهما السلام، يبكيان، إذ عاد جبريل عليه السلام إلى حاله، فقال: أبشر يا محمد، هذا رضوانُ خازنُ الجنة قد أتاك بالرضا من ربك. فأقبل رضوان حتى سلَّم، ثم قال: يا محمدُ، ربُّ العزة يُقْرِئُكَ السلام - ومعه سَفَط من نور يتلألأ - ويقول لك ربك: هذه مفاتيح خزائن الدنيا مع ما لا ينتقص لك مما عندي في الآخرة مثل جناح بعوضة. فنظر النبي صلى لله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام، كالمستشير له، فضرب جبريل بيده إلى الأرض فقال: تواضع لله، فقال: يا رضوان لا حاجة لي فيها، الفقر أحبّ إليَّ، وأن أكون عَبْداً صابراً شكوراً. فقال رضوان عليه السلام: أصبت، أصاب الله بك، وجاء نداء من السماء فرفع جبريل عليه السلام رأسه، فإذا السموات قد فُتِحت ابوابُها إلى العرش، وأوحى الله تعالى إلى جنة عَدْن أن تدلي غصناً من أغصانها عليه عِذْقٌ عليه غُرْفَةٌ من زَبَرْجَدَةٍ خضراء، لها سبعون ألف باب من ياقوتة حمراء، فقال جبريل عليه السلام: يا محمد ارفع بصرك، فرفع فرأى منازل الأنبياء وغُرفهم، فإذا منازله فوق منازل الأنبياء فضلاً له خاصة، ومُنَادٍ ينادي: أرضيت يا محمد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: رضيت، فاجعل ما أردت أن تعطيني في الدنيا، ذخيرةً عندك في الشفاعة يوم القيامة.
ويروى: أن هذه الآية أنزلها رِضْوَان: {تَبَارَكَ ٱلَّذِيۤ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذٰلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً}.
{ وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يٰلَيْتَنِي ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلاً }
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ...} الآية. [27].
قال ابن عباس - في رواية عطاء الخراساني: كان أُبيُّ بن خَلَف يَحْضُر النبي صلى الله عليه وسلم ويجالسه ويستمع إلى كلامه من غير أن يؤمن به، فزجره عُقْبَةُ بن أبي مُعَيْط عن ذلك، فنزلت هذه الآية.
وقال الشعبي: وكان عُقْبَةُ خليلاً لأمية بن خلف، فأسلم عقبة فقال أمية: وجهي من وجهك حرام إن تابعت محمداً. وكفر وارتد لرضا أمية، فأنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالى هذه الآية.
وقال آخرون: إن أبيّ بن خلف وعقبة بن أبي مُعَيط كانا متحالفين، وكان عقبة لا يقدم من سفر إلا صنع طعاماً فدعا إليه أشراف قومه، وكان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم، فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعاماً فدعا الناس ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعامه، فلما قُرِّب الطعام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من طعامه. وكان أبي بن خلف غائباً، فلما أخبر بقصته قال: صبأت يا عقبة؟ فقال: و الله ما صَبَأْت ولكن دخل علي رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلا أن أشهد له، فاستحيت أن يخرج من بيتي ولم يطعم، فتشهدت [له] وطعم. فقال أبي: ما أنا بالذي أرضى عنك أبداً إلا أن تأتيه فتَبْزُق في وجهه وتطأ عنقه، ففعل ذلك عُقْبَةُ فأخذ رحم دابة فألقاها بين كتفيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ألقاك خارجاً من مكة إلا عَلَوْتُ رأسَكَ بالسيف. فقتل عقبة يوم بدر صبراً. وأما أبيُّ بن خَلَف فقتله النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد في المبارزة، فأنزل الله تعالى فيهما هذه الآية.
وقال الضحاك: لما بَزَقَ عقبة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عاد بُزَاقُهُ في وجهه فتشعب شعبين، فأحرق خديه. وكان أثَرُ ذلك فيه حتى الموت.
{ وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }
قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ...} إلى آخر الآيات. [68-70].
أخبرنا أبو إسحاق الثعالبي، قال: أخبرنا الحسن بن أحمد المخلدي، قال: أخبرنا المؤمل بن الحسن بن عيسى، قال: حدَّثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزَّعْفَرَاني قال: حدَّثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعد بن جبير، سمعه يحدث عن ابن عباس:
أن ناساً من أهل الشرك قَتَلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لَحَسنٌ لو تخبرنا أنَّ لما عملنا كفارةً. فنزلت: {وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ...} الآيات إلى قوله: {غَفُوراً رَّحِيماً}. رواه مسلم عن إبراهيم بن دينار، عن حجاج.
أخبرنا محمد بن إبراهيم بن يحيى المزكي، قال: حدَّثنا والدي، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق الثقفي، قال: حدَّثنا إبراهيم الحَنْظَلِي ومحمد بن الصباح، قالا: حدَّثنا جرير، عن منصور والأعمش، عن أبي وائل، عن عمرو بن شُرَحْبِيل، عن أبي مَيْسَرة، عن عبد الله بن مسعود، قال:
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيُّ الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قال: قلت: ثم أيّ؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تُزَانِيَ حليلة جارك. فأنزل الله تعالى تصديقاً لذلك: {وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ}.
رواه البخاري. [عن مسدِّد عن يحيى].
ومسلم عن عثمان بن أبي شَيْبَة، عن جرير.
أخبرنا أبو بكر بن الحارث، قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر، قال: حدَّثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم، قال: حدَّثنا إسماعيل بن إسحاق: قال: حدَّثنا الحارث بن الزبير، قال: حدَّثنا أبو راشد مولى اللهَبِيِّين عن سعيد بن سالم القَدَّاح، عن ابن جُرَيج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال:
أتى وَحْشيٌّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، أتيتك مستجيراً فأجرني حتى أسمع كلام الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد كنتُ أحب أن أراك على غير جِوَارٍ، فأما إذ أتيتني مستجيراً فأنت في جواري حتى تسمع كلام الله. قال: فإني أشركت بالله، وقتلت النفس التي حرم الله تعالى، وزنيت؛ هل يقبل الله مني توبة؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت: {وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ} إلى آخر الآية. فتلاها عليه، فقال: أرى شَرْطاً، فلعلي لا أعمل صالحاً، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله تعالى. فنزلت: {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} فدعا به فتلاها عليه، فقال: ولعلي ممن لا يشاء، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله. فنزلت: {قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ} فقال: نعم، الآن لا أرى شرطاً، فأسلَمَ.