حوار: إيمان إسماعيل ومي جابر
"أنا ذاهب لأستشهد غدًا يا أمي، فكيف تريدين مني عدم النزول للمظاهرة؟!".. "سأتزوج غدًا من خارج الدنيا بإذن الله".. تلك كانت آخر كلمات تفوَّه بها الشهيد مصطفى الصاوي، في يوم الخميس 27/1/2011م، قبل استشهاده في الثورة المصرية بـ24 ساعة فقط"!.
الشهيد مصطفى الصاوي، يبلغ من العمر 26 عامًا، وهو خريج كلية التجارة، يقطن بالعقار رقم 18 بشارع الجامع بالحوتية في منطقة العجوزة، ترتيبه الرابع بين إخوته الخمسة: منى (34 عامًا)، وإيهاب (32 عامًا)، ومريم (29 عامًا)، ومروان (10 أعوام).
مصطفى.. إمام مسجد الحصري بالعجوزة، ويؤمُّ المصلين في الكثير من المساجد الأخرى، وهو يحفِّظ القرآن لعشرات الأطفال بالمنطقة، وفي الأسبوع الأخير من حياته كلما عرض عليه أحدٌ الزواج كان يبتسم ويجيبه بيقين تام بأنه سيتزوج قريبًا "من خارج الدنيا"!.
(إخوان أون لاين) التقى أسرة صديق القرآن.. شهيد الحرية:
بدايةً يعرفنا أكثر على شهيد العجوزة صديقه ومربِّيه وزوج أخته، محمد عبد الرازق؛ حيث يقول: "مصطفى كان حافظًا لكتاب الله بأكمله، وكان يؤمُّ المصلين في رمضان، وفي غيره من الشهور، وكان يحب الإنشاد بصوته الفائق الجمال، وهو من النوع الذي يحدِّد هدفًا واحدًا فقط في فترة محددة، ويسعى إلى إنجازه بكلِّ ما أوتي من قوة، ثم يبدأ في التوجه إلى هدف آخر وهكذا".
ويضيف: "في الثانوية العامة كانت اللغة الإنجليزية متسبِّبة في مشكلة كبيرة لمصطفى، فحدد هدفه أن يجيدها خلال مرحلة معينة، وبالفعل أنجز 11 مستوى بالجامعة الأمريكية من أصل 13 مستوى، حتى إنه كان يعمل مصمِّم رسومات بشركة مقاولات لأعمال التكييف، ولم يكن بارعًا فيها للدرجة، ولكنَّ الشركة تمسَّكت به لإجادته اللغة الإنجليزية بجدارة".
ويستكمل تعريفه بالشهيد- الذي كان يعدُّ أوراق الخدمة العسكرية قبل استشهاده بأيام-: إن مصطفى كان هادئ الطباع جدًّا، وكان حياؤه كبيرًا جدًّا، وخجله من الممكن أن يسبِّب له مشكلات عديدة، ففي ذات مرة كان ينشد في حفل، وفوجئ بأن الصفَّين الأولَيْن جميعهما من النساء، فأنشد مقطعًا من الأنشودة، وأصرَّ على عدم استكمالها، وهبط من المسرح.
ويتابع: "كثيرًا ما كان يعرض على مصطفى أن تسجَّل له شرائط ويتمَّ تسويقها، إلا أنه كان يرفض بشدة، فكنا نفسِّر ذلك بأن موضوع استغلال صوته الجميل ليس في اهتماماته، إلا أننا بعد استشًهاده أيقنَّا أنه كان لا يحب الشهرة، ولا يرغب أن تحتلَّ جزءًا- ولو ضئيلاً- من قلبه؛ حتى غرفته كان زاهدًا فيها جدًّا، وكان يتعمَّد أن تكون كذلك، فلا يوجد فيها إلا فراشه ومكتبته، ولا يوجد بها سجاد ولا زخارف ولا أشياء كمالية، وأكثر ما يؤلمني هو عدم فهمي وتفسيري لتحركات مصطفى وتفكيره وهو حي، والتي أدركتها بعد فوات الأوان، وأنه ليس تابعًا لدنيا وإنما يريد الله والآخرة فقط". ويقول إن مصطفى كانت لديه سلامة صدر عالية، وكان مبتسمًا دائمًا في وجه الجميع، ويقابل كل المشكلات ببساطة بالغة.
الحور العين!
|
والدا الشهيد مصطفى الصاوي |
وتروي والدته آخر لحظات قصتها معه، مشيرةً إلى أن نجلها ظل يوم الأربعاء 26 يناير يتحدث معها كثيرًا، ودار بينهما حوار حول زواجه، فقالت له: "انتهي يا مصطفى من الجيش على خير علشان نخطب لك"، فردَّ عليها: "لا يا أمي، أنا سأتزوج من خارج البلاد"، فقالت له إن بنات الخارج لا يناسبن ثقافتنا"، فقال- وهو مبتسم-: "لا تقلقي يا أمي دول مناسبين جدًّا، وفي غاية الجمال".
وحاولت أمه أن تلتقط أنفاسها، والدموع تنهمر من عينيها بكثافة لتعاود قائلةً: "لم أكن أعرف أنه يقصد بالزواج من خارج البلاد، أنه يقصد الحور العين، وأنه كان على علم بأنه سيُستشهد"، وانخرطت بعدها في بكاء طويل. وتتذكَّر شريط الذكريات، مشهدًا تلو الآخر، وقالت: "سهرنا معًا يوم الخميس إلى صلاة الفجر، فصلينا، وقلت له بعدها اذهب للنوم لأنك تعبت اليوم جدًّا، ولا تذهب للمظاهرات، فردَّ عليَّ في سرعة بالغة: أنا ذاهب طبعًا لأني سوف أستشهد غدًا بإذن الله، وتبسَّم وذهب للنوم، ووقتها شعرت بانقباض في قلبي، وقد كان ما كان". وتضيف قائلةً: "وقت صلاة الجمعة، توجَّست أن أوقظه، ففتحت باب غرفته وتأكدت أنه نائم، وتسلَّلت ببطء خوفًا من استيقاظه وذهابه إلى المظاهرات"، إلا أنها لحظات وهبَّ مستيقظًا، وارتدى ملابسه بسرعة بالغة، وذهب مهرولاً إلى صلاة الجمعة دون أن يسلِّم عليها، وكانت جنازته تهرول إلى القبر أيضًا تمامًا كهرولته إلى الله، وهو ذاهب للمظاهرة. لحظات وداع
|
أخت الشهيد تمسك بملابسه التي استشهد فيها |
أما أخته مريم فتروي آخر لحظات قصتها مع مصطفى فتقول: "يوم الثلاثاء زارنا بشكل مفاجئ وعجبت لذلك، إلا أنه قال لي جئت لأسلم عليك فقط، وحدث نفس الأمر في يوم الأربعاء، أما يوم الخميس فاتفقت معه أني سأزورهم أنا، ولكن تأخرت فاستعجلني، وكأنه يودِّعنا، ويريد أن يجلس معنا أطول فترة ممكنة". وتضيف قائلةً: "قال لي يوم الخميس: أنا ذاهب لأستشهد غدًا، فضحكت واعتقدت أن كل ذلك مجرد مزاح"، وتستكمل: "إلا أني أيقنت أن كل تلميحاته السابقة وحركاته؛ كانت نابعة من شخص واثق في استشهاده، فهو بمجرد نزوله للمظاهرة استُشهد، وعلمنا بخبر الوفاة في الرابعة والنصف عصرًا، وأكد إجرامَ الشرطة وجهاز أمن الدولة تقريرُ الطبيب الشرعي، الذي قال إن سبب الوفاة إصابته بطلقات نارية حية". ويستكمل صديقه محمد قائلاً: "تحركنا من مسجد مصطفى محمود، وأول نقطة احتكَّ بنا الأمن المركزي فيها كانت على كوبري الجلاء؛ حيث ضربنا بالقنابل المسيلة للدموع، وقابلت لواء شرطة اسمه سعيد شلبي، رئيس قسم العجوزة السابق ومساعد وزير حالي، احتكَّ بي قديمًا في الانتخابات، وأصرَّ على طردي من لجنة الفرز ودفعني، واحترمته؛ لأنه رجل كبير في السن، وفي تلك المظاهرة وجدته مصابًا من جرَّاء القنابل بحالة اختناق وملقًى على الأرض، فالتقطته من وسط المواطنين، ونقلته بنفسي أنا ومصطفى إلى مستشفى الشرطة". لحظة استشهادهويستكمل قائلاً: "عدت مرةً أخرى للمظاهرة عند كوبري قصر النيل بالقرب من الأوبرا، بعد أن اطمأننت على اللواء، وتوالت إصابات المتظاهرين، فرأيت رجلاً فوق الستين من عمره مصابًا بخراطيش في وجهه، وأخفيت ملامح وجهه بسبب الدماء كأننا في حرب غزة، فرفعناه على مقعد ونقلناه إلى فندق بجوار الأوبرا؛ حيث كان يتم تجميع المصابين، فقابلت صديقًا لي هناك، وقال لي ادع لمصطفى لأنه أصيب إصابة شديدة، فاستغرقت في التفكير هل أترك هذا الرجل المسنّ، وأذهب إلى مصطفى أم ماذا أفعل؟!، وكل ما جال بخاطري أن إصابة مصطفى بسيطة بإذن الله". ويضيف: "سألت المتظاهرين على مصطفى فقالوا لي: إنهم ذهبوا به إلى مستشفى "الأنجلو أمريكان"، فما إن وصلت وجدت أناسًا يقولون لشقيقي لا تتركوا حقَّه، فجريت إليه وسألته ماذا حدث؟ وحقّ من الذي تتحدثون عنه؟، فقال لي: مصطفى الصاوي استُشهد، وهو أول من استُشهد على كوبري قصر النيل. ويروي تلك اللحظات فيقول: "ما إن تلقيت الخبر لم أشعر بنفسي، وكل ما دار بذهني وقتها حادثة خالد سعيد، فخشيت أن يشهِّروا بمصطفى على أنه مجرم، أو متعاطٍ للمخدرات، أو غيرها من تلك الاتهامات الباطلة التي يسوِّقونها، فقرَّرت المبيت بجوار جثمانه". ويشير إلى أن الأطباء في المستشفى أخبروه أن إصبع مصطفى كان على وضع الشهادة منذ ما جاء، وتجمَّد على تلك الحال. ويضيف: "على الرغم من أن أغلب العاملين في المستشفى من المسيحيين فإن تعاملهم كان في قمة الأدب والاحترام، والداخلية الفاشلة ووزيرها المجرم هم من كانوا يريدون إشعال الفتن بيننا وبينهم". ويتابع: إن تقرير الطب الشرعي أثبت إصابته بطلقات نارية "رشية" حيوية بمنطقة الصدر، ونتج منها 25 ثقبًا. في الجنازة
|
[b]الشهيد مصطفى الصاوي |
ويقول: "ما إن انتهينا من إجراءات الدفن؛ حيث كفَّناه دون أن نغسِّله، صلينا عليه في الشارع لكثرة عدد المصلين، ولم يوجد مسجد يستوعب عددنا، وكان أملي أن أحمل مصطفى وأمضي به شارعًا واحدًا فقط، إلا أني فوجئت بعربات الأمن المركزي تحيط بنا، ولكن الأهالي أصرُّوا على أن نحمل مصطفى مشيًا على الأقدام من العجوزة إلى السيدة عائشة، فزادت الأعداد بمئات الآلاف، حتى إن المارَّة اعتبروها مظاهرة، وضرب الأمن النار ونحن قرب الجامعة الأمريكية، وأصيب عدد كبير من الناس خلالها"!.[/b]
ويبين أن أصدقاء مصطفى أقسموا أنهم لن يرحلوا من التحرير؛ حتى يؤخذ حق كل الشهداء، وليس مصطفى فقط، مؤكدًا أنهم ما زالوا في انتظار محاكمة المجرمين؛ لأن ما حدث فقط هو تنحِّي الرئيس، أما أذناب الرئيس المخلوع وذيوله فما زالوا موجودين.
العادلي القاتل
أما والد سمير الصاوي فيقول: "شعرنا براحة كبيرة جدًّا بتنحِّي مبارك، ولكنَّ حق مصطفى وحق جميع الشهداء لم يعد".
فقاطعته والدة الشهيد: "حق مصطفى لن يعود إلا إذا أتينا بحبيب العادلي في وسط ميدان التحرير، وجعلنا كل من له حق من أهالي الشهداء أو المصابين يقتصُّ منه كما يجب، ولم ولن أهدأ حتى يقتص جميع أمهات الشهداء من المجرم".
وتضيف أنها بمجرد سماع خبر التنحِّي نزلت إلى الشارع، وزغردت مع أهالي المنطقة، وأقاموا زفةً كبيرةً وسط تهاني الناس لها.
ويؤكد والد الشهيد هذا الكلام، قائلاً: "بفضل الله أنا متأكد أننا لن نعود في ذلك البلد خطوةً إلى الوراء، فبمجهود ذلك الشباب الذي ضحَّى بروحه في سبيل البلد لن نعود إلى الوراء أبدًا".
وبلغة يملؤها التحدي قال: "لو رزقني الله 10 أبناء مثل مصطفى لدفعت بهم واحدًا تلو الآخر؛ ليُستشهدوا في سبيل الله لإصلاح ذلك الوطن، ولن أتوانى في ذلك أبدًا".
ويستكمل صديقه محمد قائلاً: "حتى وزير الداخلية الجديد الذي يقول إن حبيب العادلي ظلمه، كاذب؛ حيث قال: إن المتظاهرين كان بحوزتهم أسلحة بيضاء، وأنكر وجود رصاص حيّ تم ضربه على المتظاهرين، ومن المفترض أن من ذاق طعم الظلم لا يرضى أبدًا أن يذيقه لغيره".
ويستطرد: "حاولنا أن نقدم مداخلةً في برنامج "الـ10 مساءً"، وإيهاب شقيقه أراد أن يقوم بمداخلة للبرنامج، إلا أننا فشلنا، ففي المرة الأولى قاموا بإغلاق الهاتف في وجهه بمجرد علمهم بأنه أخو الشهيد مصطفى الصاوي، وفي المرة الثانية قالوا إن لديهم الكثير من المداخلات، وليس لديهم وقت لمداخلته، لذلك قمت بإنشاء مجموعة على "الفيس بوك" تحت اسم "كلنا ضد العاشرة مساء"؛ لأن الإعلام ما زال يأخذ تعليماته، وما زال المجرمون يسوِّقون لإجرامهم.
ثقة مفقودة
|
[b] [b][size=9]الشهيد مصطفى الصاوي يقرأ القرآن في حفل بأحد المساجد [/size][/b] |
ويتساءل محمد: "بعد كل ذلك هل يجوز أن يقولوا نعيد الثقة بين الشعب والشرطة؟! أي ثقة التي من المفترض إعادتها، وهو يقوم بضرب النار على المتظاهرين؟ أي ثقة التي يطالب بها، وهو حرم أطفالاً من حفظ القرآن على يد مصطفى؟ وهو حرم ابنتي وأولادي من أن يقولوا كلمة "خالو مصطفى"؟ أي ثقة يتحدثون عنها وهناك أمٌّ حُرِمَت من ابنها الذي كان يقوم بتلبية طلباتها كافة؟!".[/b]
ويضيف: "مصطفى أقام دروسًا للطلاب غير القادرين بدون مقابل مادي، حتى إنه جمع الشباب من مختلف التخصصات، سواءٌ كان خريج تجارة أو صيدلة أو أي كلية أخرى، إلا أنَّ أمن الدولة دَهَم المكان وأغلقه؛ بحجَّة أن مصطفى منتمٍ إلى جماعة الإخوان المسلمين، ولا يجوز تقديم أي خير للبلد".
ويقول: "مصطفى خدوم إلى درجة لم تتخيلوها، فعندما كنا على كوبري قصر النيل قبل استشهاده بدقائق، كان يوزِّع كل الكمامات التي يمتلكها على الناس من حوله، حتى إن أحد أصدقائه قال له اترك بعض الكمامات لأصدقائنا الذين لم يلتحقوا بنا بعد، فأجابه مصطفى كل من هم هنا إخواننا وأصدقاؤنا وأحباؤنا، واجتمعنا من أجل غاية واحدة".
ويؤكد أن سلوك الشهيد كان القرآن؛ حيث دائمًا ما كان يُسمع ما حفظه من القرآن أثناء سيره، أو يردِّد أناشيد وابتهالات، فهو حقًّا كان يصدق فيه قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما معناه "إذا رأيته يذكرك بالله"، وكثير من معارفنا وأقاربنا كانوا دائمًا ما يقولون إن مصطفى لن يموت إلا شهيدًا".
حب الإخوان
ويختتم حديثه: "استشهاد مصطفى زاد من حب أهالي الحي والمناطق المجاورة في جماعة الإخوان التي كان يمثلها مصطفى؛ حيث أدركوا أن النظام البائد هو من كان يستخدم فزَّاعة الإخوان؛ لعلمه بشعبيتهم وحب الناس لهم إذا ما كشف الغطاء عن رموز النظام".