عندما تسقط الأقنعة
بقلم الأخت الفاضلة سحر حمزةيتراءى للناظر أحياناً، و للوهلة الأولى عند لقاء بعض الشخصيات من حولنا، أنهم مثاليون متميزون، ننبهر بهم، نتأمل قسمات وجههم فنرى فيها نوعاً من الطيب أو السماحة أو حتى البساطة ونتأمل منهم الكثير، ولا يخطر ببالنا أنهم أتقنوا فن التخفي والرياء، وارتدوا أثواباً أكبر من مقاسهم.
نعيش معهم حلماً وهمياً، فترة غير قصيرة، نظن بهم الظن الحسن، وأنهم بارقة الأمل للكثيرين، ممن علقوا آمالاً عليهم، لتحقيق نوع من العدالة والإنصاف، لجنود مجهولين، وأحياناً من خلال بعض المواقف نفرح لفشل بعض الخبثاء، ممن توضح قسماتهم اللؤم بأشكاله المختلفة بعد أن ينكشف الغطاء وتظهر حقيقتهم، ثم نفزع، ونهرع، ونصدم، نعم تأخذنا صاعقة من سوء المنظر والمشهد المتحول، مع مقارنة مما نراه في أول لقاءبهم، وما بعده....
نكتشف أن اللقاء الاول، هو أشبه بمرج رائع شكله ساحر غطي بالثلج الابيض فبدا ناصعاً نقياً لم تطأه أقدام غاشم أو ظالم غير عادل، ويتكرر اللقاء فإذ بالثلج ينصهر ويذوب ويبرز المرج..
ترى فيه قحطا وجفاء، وتراه أصفر لا تكسوه الخضرة ولا الأرض الخصبة، وهذه هي في حقيقة الأمر فاجعة..
ومع الأيام مع سطوع الشمس وشدة حراراتها، يصفر المرج أكثر وأكثر ثم يصبح أشبه بصحراء جرداء لا يوجد فيها ما يسد رمق عابر سبيل..
ومثل هؤلاء الأشخاص في زماننا، يتكررون للآسف هذه الايام، وكأنهم يلبسون أقنعة في حفل تنكري، يخفون وراءهم خبثا ولؤما ونوعا خاصا من التوابل غير الإنسانية ،يتعاملون مع بعض البشر،كأنهم عبيد أو كأنهم في سوق نخاسة، ينادون من يكذب أكثر من يضحك عليهم ويبتسم لهم ويصفق، هو الفائز وهو المقرب والمحبب لهم، وبكل جبروت وظناً منهم أنهم الأعلون أو أنهم أقرب لصاحب أمر أو صاحب قرار، يغضون النظر عمن كان له بصمة في مراحل من حياتهم، يكنون له كل تجاهل ولكل من يمدون لهم يداً خيرة، تعمل بصمت وتحترق كي تضيء شعلة، أو تسهم في عمل يحقق نجاحاً ما، أناس لا يطلبون من وراء عملهم كلمة شكر أو ثناء، فقط إبتسامة رداً إنسانياً تعاطفاً لبقاً كما خلق دين حنيف حثنا عليه خالق الكون ومبدعه وخالقنا وخالقهم...
في زماننا هذا للأسف كثرت مثل هذه الشخصيات، تجدها بالنفاق تتبوأ مكانة أمام من هم ذوي شأن وأصحاب النفوذ، وتجد مثل هذه الشخصيات تتكسب مثل الطفيليات على الطحالب الخضراء في الأنهار التي تتدفق في عدة روافد كي تروي السهول والأرض التي تحتاج لبعض من رمق لتخضر ويكثر العطاء، كي ينمو زرعاً أويكبر حقلاً..
في زماننا هذا، تلونت الأقنعة وتنوعت تصاميمها، لم تعد سوداء أو بيضاء، بل أصبحت بكل الألوان البراقة الرائعة كألوان قوس قزح بعد مطر غزير وهو يغازل السماء بجنون عاشق للعطاء بلا حدود...
في زماننا هذا كثيرة هي الأقنعة التي يرتديها أناس يُسمًَون أحياناً متميزين متألقين أو ربما يكونون مثل مربين أو أمهات كتاب وموسوعات، تؤلف وتؤلف لتسدل بعد ذلك فصول مسرحياتها بنهايات غير حميدة أو سعيدة، وهؤلاء يصفق لهم ويبارك نتاجهم المسروق من عرق الآخرين، وهم يتوجون بين فئة المتميزين أو البارعين في وصولهم إلى مناصب أو كراسي سرعان ما سينزلقون من تحتها لأنهم بلا ثوابت ولا قواعد، أو أجساد تتحرك مثل الأحياء لكنها في الحقيقة، مدفونة حية، مثل الأجداث تركن في مقبرة مهجورة، ومثل الأفاعي أحياناً يتلونون كي يلسعوا ثم يختبئوا، أوكالرمال المتحركة يبتلعون الأخيار وقد يخنقون صوتهم لأنهم عبروا عن رفضهم لمن يلبسون هذه الأقنعة المزيفة..
في زماننا كثر مثل هؤلاء وفي النهاية يكتشف البعض أنهم ليسوا حقيقيين بل أقنعة لا بد أن تذوب المادة التي ألصقت بها، او تمزقت لأن القناع نفسه ما عاد يحتمل مثلهم، يكابرون ويصرون على تعنتهم، بل ينعتون الآخرين بأنهم وراء الظل معتمين بلا صدى ولا صوت ولا وضوح..
في النهاية ستسقط الأقنعة ويذوب الثلج ويظهر المرج، وتبقى شمعة مضيئة في الظلام الدامس تضيء دروب كثيرين، تبكي بغزارة كي يرى غيرها النور، وتذوب غير آبهة بنهايتها، حتى لو غدت مجرد نور ظهر وأختفى وأصبح طي النسيان، في النهاية ستسقط الأقنعة، ويعرف الجميع بأن الأبقى لأصول لا لا تذيبها حرارة الشمس ولا ذوبان الثلج ولا تقتلعها العواصف، وإن بقيت خافتة، لا تشاهد عن قرب، إلا أننا سوف نراها، في سلوكياتها، و بصدقها، وعفويتها، وتواضعها ونزاهتها، لأنها لا يمكنها أن تلبس قناعاً يغطي عيوبها، قناعا لن يكون بسعة صدرها، ودماثة خلقها، وتواضعها، ولأن حجمها أكبر من الوصف في مقال، يصمم طبيعتها التي تنعكس في تعاملاتها و طموحها غير المحدود في كسب رضى الله أولاً دون رياء أو أقنعة مزيفة...، وهذه لا تتوانى في مساعدة الآخرين، وتعلن رغبتها بأن تحترق كالشموع كي تنير دروب الآخرين، وتبقى بصمتها في ذاكرة الكثيرين..
في هذه الايام قلما نرى هذه النوعية من الشخصيات، ونادراً ما نراها بين فصائل البشر في عصرنا الحالي، فلا تخدعكم أقنعة الكثيرين، الذين يبتسمون لكم، وهم يلبسون أقنعة الطيب والسماحة، ويحاولون التقرب من البعض لتحقيق مصالحهم، بأقنعة غير مكشوفة لبعض البشر، لكنها سرعان ما تسقط بكل تأكيد ويقين، بعد أن يذوب ثلجها ويظهر مرجها القاحل، الفارغ، وينكشف الغطاء عنها، أحياناً يكون قد فات الآوان، لكن يبقى خيط رفيع لأولئك البشر بأن يعودوا لإنسانيتهم، وربما يغدون بعد سقوط الأقنعة إلى روائع ونوادر، وهذا لا يحدث دائماً...
وهنا أود أن أشير إلى أناس لا يستطيعون وضع الأقنعة، ولا يرتدون إلا ثوب العفة والنزاهة، وثوب الشفافية والمصداقية في التعامل، وتبقى الشمس التي يستظلون بها تبعث الدفء والضياء، وتحترق كالشموع من أجل الكثيرين ممن يعملون دون أقنعة، صامتين يؤثرون على أنفسهم ولـو كان بهم خصاصة، يجتهدون كي يحقق الآخرون أهدافهم غير آبهين بتيارات عابرة لا تهزها العواصف، ولا تلك الرياح العاتية التي تنحني لها الأشجار كي لا تنكسر أغصانها ،وهذا يؤكد أنهم لا يرتدون أقنعة ولن يسقط ماء وجوههم، لكنهم ينحنون أحيانا للحفاظ على وجودهم للبقاء من أجل الآخرين، ولن تندى جباههم مقابل مكاسب زائلة.........