هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب، أي: بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد من الناس، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن ردّ ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكم محكمه على متشابهه عنده، فقد اهتدى. ومن عكس انعكس؛ ولهذا قال تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنـزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ) أي: أصله < 2-7 > الذي يرجع إليه عند الاشتباه ( وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) أي: تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئًا آخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد.
وقد اختلفوا في المحكم والمتشابه، فروي عن السلف عبارات كثيرة، فقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس [أنه قال] المحكمات ناسخه، وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، وما يؤمر به ويعمل به.
وكذا روي عن عكرمة، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، ومُقاتل بن حَيّان، والربيع بن أنس، والسُّدِّي أنهم قالوا: المحكم الذي يعمل به.
وعن ابن عباس أيضًا أنه قال: المحكمات [في] قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [ الأنعام : 151 ] والآيتان بعدها، وقوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ [ الإسراء : 23] إلى ثلاث آيات بعدها. رواه ابن أبي حاتم، وحكاه عن سعيد بن جُبَيْر [ثم] قال: حدثنا أبي، حدثنا سليمان بن حرب، حدّثنا حماد بن زيد، عن إسحاق بن سُوَيْد أن يحيى بن يَعْمَر وأبا فاختة تراجعا في هذه الآية: ( هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ) فقال أبو فاختة: فواتح السور. وقال يحيى بن يَعْمَر: الفرائض، والأمر والنهي، والحلال والحرام .
وقال ابن لَهِيعَة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير: ( هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ) يقول: أصل الكتاب، وإنما سماهن أم الكتاب؛ لأنهن مكتوبات في جميع الكتب.
وقال مقاتل بن حيان: لأنه ليس من أهل دين إلا يرضى بهنّ.
وقيل في المتشابهات: إنهن المنسوخة، والمقدم منه والمؤخر، والأمثال فيه والأقسام، وما يؤمن به ولا يعمل به. رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
وقيل: هي الحروف المقطعة في أوائل السور، قاله مقاتل بن حيان.
وعن مجاهد: المتشابهات يصدق بعضهن بعضًا. وهذا إنما هو في تفسير قوله: كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ [ الزمر : 23 ] هناك ذكروا: أن المتشابه هو الكلام الذي يكون في سياق واحد، والمثاني هو الكلام في شيئين متقابلين كصفة الجنة وصفة النار، وذكر حال الأبرار ثم حال الفجار، ونحو ذلك فأما هاهنا فالمتشابه هو الذي يقابل المحكم.
وأحسن ما قيل فيه الذي قدمناه، وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار، رحمه الله، حيث قال: ( مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ) فيهن حجة الرب، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه.
قال: والمتشابهات في الصدق، لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد، كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل، ولا يحرّفن عن الحق.
< 2-8 >
ولهذا قال تعالى: ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ) أي: ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل ( فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ) أي: إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرّفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينـزلوه عليها، لاحتمال لفظه لما يصرفونه فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه؛ لأنه دامغ لهم وحجة عليهم، ولهذا قال: ( ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ ) أي: الإضلال لأتباعهم، إيهامًا لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهذا حجة عليهم لا لهم، كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى هو روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وتركوا الاحتجاج بقوله [تعالى] إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ [الزخرف : 59] وبقوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ آل عمران : 59 ] وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله، وعبد، ورسول من رسل الله.
وقوله: ( وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ) أي: تحريفه على ما يريدون وقال مقاتل والسدي: يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من القرآن.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب عن عبد الله بن أبي مُلَيْكَة، عن عائشة قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هُوَ الَّذِي أَنـزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ] ) إلى قوله: ( أُولُو الألْبَابِ ) فقال: "فإذا رأيتم الذين يُجَادِلُون فيه فهم الذين عَنَى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ" .
هكذا وقع هذا الحديث في مسند الإمام أحمد، رحمه الله، من رواية ابن أبي مُلَيْكَة، عن عائشة، ليس بينهما أحد.
وهكذا رواه ابن ماجة من طريق إسماعيل بن عُلَيَّة وعبد الوهاب الثقفي، كلاهما عن أيوب، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، عنها .
ورواه محمد بن يحيى العبدي في مسنده عن عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، به. وكذا رواه عبد الرزاق، عن مَعْمَر عن أيوب. وكذا رواه غير واحد عن أيوب. وقد رواه ابن حبان في صحيحه، من حديث أيوب، به.
وتابع أيوب أبو عامر الخزاز وغيره عن ابن أبي مليكة، فرواه الترمذي عن بُنْدار، عن أبي داود الطيالسي، عن أبي عامر الخزاز، فذكره. وهكذا رواه سعيد بن منصور في سننه، عن حماد بن يحيى الأبَحّ، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة. ورواه ابن جرير، من حديث روح بن القاسم ونافع بن عمر الجُمَحِيّ، كلاهما عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، به. وقال نافع في روايته عن ابن أبي مليكة: حدثتني عائشةَ، فذكره .
< 2-9 >
وقد روى هذا الحديث البخاري، رحمه الله، عند تفسير هذه الآية، ومسلم في كتاب القدر من صحيحه، وأبو داود في السنة من سننه، ثلاثتهم، عن القَعْنَبِيِّ، عن يزيد بن إبراهيم التُّسْتَريّ، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هُوَ الَّذِي أَنـزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ [هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ] ) إلى قوله: ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ ) قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيتَ الذين يتَّبِعُون ما تشابه منه فأولئك الذين سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ" لفظ البخاري .
وكذا رواه الترمذي أيضًا، عن بندار، عن أبي داود الطيالسي، عن يزيد بن إبراهيم التستري، به. وقال: حسن صحيح. وذكر أن يزيد بن إبراهيم التستري تفرد بذكر القاسم في هذا الإسناد، وقد رواه غير واحد عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، ولم يذكروا القاسم. كذا قال .
ورواه ابن المنذر في تفسيره من طريقين عن النعمان بن محمد بن الفضل السَّدُوسِيّ -ولقبه عارم-حدثنا حماد بن زيد، حدثنا أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، به .
وقد رواه ابن أبي حاتم فقال: حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا يزيد بن إبراهيم التستري وحَمّاد بن سلمة، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل: ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الذين يَتَّبِعُونَ ما تشابه منهُ فأولئك الذين سَمَّى اللهُ، فَاحْذَرُوهُمْ" .
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل حدثنا الوليد بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: نـزع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية: ( فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد حَذَّرَكُمُ اللهُ، فإذا رأيْتُمُوهم فَاعْرفُوهُمْ". ورواه ابن مَرْدُويه من طريق أخرى، عن القاسم، عن عائشة به .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو كامل، حدثنا حماد، عن أبي غالب قال: سمعت أبا أمامة يحدث، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ) قال: "هم الخوارج" ، وفي قوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ .[آل عمران : 106] قال: ( رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) "هم الخوارج".
وقد رواه ابن مردويه من غير وجه، عن أبي غالب، عن أبي أمامة مرفوعا، فذكره .
< 2-10 >
وهذا الحديث أقل أقسامه أن يكون موقوفًا من كلام الصحابي، ومعناه صحيح؛ فإن أوّل بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج، وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم حُنَيْن، فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدل في القسمة، ففاجؤوه بهذه المقالة، فقال قائلهم -وهو ذو الخُوَيْصرة-بقر الله خاصرته-اعدل فإنك لم تعدل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد خِبْتُ وخَسرْتُ إنْ لَمْ أكن أَعدل، أيأمَنُني على أهل الأرض ولا تَأمَنُونِي". فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب -وفي رواية: خالد بن الوليد-[ولا بُعد في الجمع] -رسول الله في قتله، فقال: "دَعْهُ فإنه يخرج من ضِئْضِئ هذا-أي: من جنسه -قوم يَحْقِرُ أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يَمْرُقُونَ من الدين كما يَمْرُقُ السهم من الرّمِيَّة، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجْرًا لمن قتلهم" .
ثم كان ظهورهم أيام علي بن أبي طالب، وقتلهم بالنَّهْروان، ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل وآراء وأهواء ومقالات ونِحَلٌ كثيرة منتشرة، ثم نَبَعَت القَدَرَيّة، ثم المعتزلة، ثم الجَهْمِيَّة، وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوق في قوله: "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فِرْقَةً، كلها في النار إلا واحدة" قالوا: [من] هم يا رسول الله؟ قال: " من كان على ما أنا عليه وأصحابي" أخرجه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة .
وقال الحافظ أبو يَعْلَى: حدثنا أبو موسى، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا المعتمر، عن أبيه، عن قتادة، عن الحسن عن جندب بن عبد الله أنه بلغه، عن حذيفة -أو سمعه منه-يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر: " إن في أمّتي قومًا يقرؤون القرآن يَنْثُرُونَهُ نَثْر الدَّقَل، يَتَأوَّلُوْنَهُ على غير تأويله". [لم] يخرجوه .
[وقوله] ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ ) اختلف القراء في الوقف هاهنا، فقيل: على الجلالة، كما تقدم عن ابن عباس أنه قال: التفسير على أربعة أنحاء: فتفسير لا يعذر أحد في فهمه، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل. ويروى هذا القول عن عائشة، وعروة، وأبي الشعثاء، وأبي نَهِيك، وغيرهم.