مسلم Admin
عدد المساهمات : 9693 نقاط : 17987 السٌّمعَة : 67 تاريخ التسجيل : 11/03/2010 العمر : 55
| موضوع: الحيل النفسية الإثنين أكتوبر 17, 2011 7:55 pm | |
| الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيد المرسلين
نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجميعن
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتبعاه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.أما بعد………… والعنوان كما سمعتم ورأيتم الحيل النفسية:
وأود أن أقول للأخوة في البداية إن هذا الموضوع هو استكمال لموضوع كنت بدأته من قبل وخرج بعنوان الأمة الغائبة.ولعل هذا الموضوع هو تشخيص لبعض أسباب غياب الأمة، وهو أيضا مثل سابقه عبارة عن مطالبة بالمشاركة.أي لون من ألوان المشاركة في الدعوة إلى الله عز وجل، إذ نحن لا نشترط حين نطالبك أنت بشخصك وعينك أيها القاعد بين أيدينا، لا نشترط لمشاركتك في العلم والدعوة والإصلاح والأمر بالمعروف شكلا معينا ولا مقارا معينا أو حجما معينا.لكن نطلب منك مطلق المشاركة بقدر ما تستطيع.لأننا نعلم أولا أنك تقدر فإن الله تعالى خلقك إنسانا، وكلمة إنسان بذاتها قبل أن ندخل في أي لفظ شرعي، كلمة إنسان يقول أهل اللغة: (هي مشتقة من النوس، ناس، ينوس إذا تحرك). إذا أنت متحرك بطبيعتك، وفعال بطبيعتك، فأنت تستطيع أن تصنع الكثير، فنحن نطالبك أولا بهذا.وثانيا لا نشترط قدرا معينا لأننا نعلم أن الناس ليس نسخة واحدة طبق الأصل بعضهم من بعض، كلا.فالذي في كبينة القيادة أحيانا شخص واحد أو اثنان وعلى العموم هم أفراد.لقد حرصت أيها الأخوة في هذه المحاضرة على الوضوح والمباشرة وعدم التعقيد العلمي، لأن المخاطب بهذه الكلمات ليسو هم النخبة وعلية القوم من المثقفين والخاصة والدعاة،…. كلا.بل نريد أن نخاطب بهذه الكلمات كل إنسان مسلم بغض النظر عن مستواه العلمي والثقافي، وعن عمره وعن أي شيء آخر، ولذلك فلا غرابة أن أحرص على توضيح العبارات وبسطها والبعد عن أي لون من ألوان الترتيب العلمي الذي قد يصعب ويشق على الناس فهمه.ومن قبل كان أبن قتيبة رحمه الله يقول في بعض كتبه:(ينبغي أن يكون الخطيب متخير اللفظ قليل اللحظ لا يحرص على تدقيق العبارة ولا على تخصيص المعاني).أي أنه يذكر معاني مجملة عامة يسهل على كل إنسان فهمها وليس فيها من الغموض والدقة أي مقدار.ومن بعده كان الإمام الشاطبي أيضا يقول:( إن السلف رحمهم الله تعالى كان الواحد منهم لا يهتم بالألفاظ، بل يلقي الكلام على عواهله وكيفما أتفق متى ما علم أن هذا الكلام يؤدي المعنى المقصود، ويصل إلى ذهن السامع ويبلغ المعنى الشرعي).إذا لندرك أننا في هذه الجلسة لا يعنينا تزويق الألفاظ.ولا تصفيف العبارات، ولا الترتيب العلمي والموضوعي بقدر ما يعنينا أن أمامنا عددا من الحيل النفسية التي نتستر بها أحيانا ينبغي أن نكتشفها ونفضح نفوسنا فيها حتى نضعها أمام الحقيقة وجها لوجه، ولا نبقي عذرا لمعتذر يقعد عن أن يقوم بعمل في سبيل الله عز وجل.إذا لا تنتظر مني استكمالا للموضوع ولا تطويلا فيه ولا تنظيرا، بل ولا حسن ترتيب، فحسبي أن تفهم الكلام الذي أقوله وتوقن أو تعلم بأنه حق وأنه ينبغي أن نعالجه.وبادئ ذي بدء نلاحظ أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) نهى عن العجز واستعاذ منه فقال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم وهو حديث طويل:( أحرص على ما ينفعك وأستعن بالله ولا تعجز).وهذا نهي ، ولا تعجز، إذا أمسك بيدك كلمة العجز حتى نفكر بعد قليل ما هو العجز.ثم تنتقل فتجد أن من دعاء النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي ثبت عن جماعة من الصحابة كأنس أبن مالك مثلا أو غيره أنه كان عليه الصلاة والسلام يستعيذ من العجز:( وأعوذ بك من العجز).والحديث جاء عن أنس وزيد أبن أرقم وهو في الصحيح وغيره.وتجد في القرآن الكريم كلمة العجز أيضا موجودة في مواضع منها: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما…..الآيات) إلى قوله تعالى:(فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين)إذا هنا يبرز أمامك العجز، فالعجز إذا داء، مرض يكون سببه الغفلة وعدم الاهتداء، حتى أن هذا الإنسان مثلا لم يكن عاجزا عن أن يحفر الأرض ليدفن أخاه الذي قتله، ولكنه غفل عن هذا المعنى ولم يتفطن له حتى رأى الغرب يبحث في الأرض فاستيقظ وتنبه ولام نفسه أن يكون الغراب معلماً له ويسبقه إلى هذه القضية فيحفر في الأرض فقال:(قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين). وبذلك قد نكتشف أن العجز هو صفة ملازمة للمعتدين أحيانا، لأن هذا الإنسان كان معتديا، فالاعتداء غلف قلبه وغطى على فطرته حتى لم يتفطن إلى مسألة أن يحفر الأرض أخاه.إذا الزيادة أو النقص الإفراط أو التفريط كل هذه الأشياء تكون سببا في ابتلاء الإنسان بالعجز والقعود وترك العمل.الإنسان يتعلم إذا حتى من الحيوان، وأنت تعرف قصة الإنسان الذي أراد أن يتعلم النحو ففشل مرة ومرتين وثلاث، وبعد ذلك رأى نملة تصعد وكلما صعدت سقطت ثم تكرر المحاولة.فبعد ذلك تلقن من ذلك درسا أنه يجب أن يحاول ويكرر المحاولة فيستجيب حتى من الحيوان أو الطير أو غيره، حتى يذكرون هذه القصة عن سيبويه أو غيره.ولذلك وصم الله المنافقين الذين تخلفوا أنه أراد سبحانه أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وبما كسبت أيديهم، وكذلك بعض المؤمنين أيضا الذين هربوا أو تولوا من المعركة:(إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم). (فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون). هذا العجز الوارد في الشرع هو ما يمكن أن نعبر عنه أحيانا بالعوائق النفسية أو الحيل النفسية وهو داء في القلب أو في النفس لكن لا يصل إلى حد أن نعتبر أن صاحبه بالضرورة كما قد يتوهم البعض مريضا نفسيا أو مجنونا مثلا.لا.. لكن عنده نوع من الخلل، وأنت تلاحظ الفرق بين إنسان سوي النفس سليم القلب ملتزم بالكتاب والسنة كثير الإقبال عليهما شديد التوكل على الله، تجد أن موازينه وحساباته مضبوطة.وآخر أعماله النفسية كلها غير طبيعية بل هي مصابة بالخلل بسبب نوع من عدم الاعتدال عنده.فتجد مثلا قضية الإدراك عنده غير منضبطة، لا يدرك الأمور إدراكا صحيحا، ولا يتصورها تصورا صحيحا، ولا يتذكرها ولا يتخيلها بشكل صحيح، فهو يدركها على غير صورتها وبذلك يخطئ الحسابات كما سوف يأتي أمثلة لذلك بعد قليل، وبالتالي تجد أن هذا الإنسان لا يعمل.أحيانا هناك إنسانا قاعدا لا يعمل، ولو قلت له، قال لك نعم أنا لا أفعل شيء، لماذا ؟قال لك عسى الله يهديني، والله أنا قادر ومستطيع، فلا يخدع نفسه أو يضحك عليها.ولكن هناك آخر تجد أنه إذا حادثته وقلت لماذا لا تفعل شيء؟ بدأ يفلسف هذا العجز، ويظهره بصورة العقل أحيانا،أو بصورة الفهم أو الحكمة، أو حتى بصورة الشرع كما سوف يبدو لك.فما هي هذه الأعذار التي نتستر ورائها أحيانا حتى نترك العمل ؟قبل أن أذكرها أود أن أقول لك نقطة حتى تدرك هل أنت تعيش نوعا من الحيل النفسية.تصور وأنت قاعد بين يدي الآن، هل تشعر أنك المخاطب وأن الكلام وموجه لك مباشرة؟أم تشعر أنه يعني أناس آخرين غيرك؟فإن كنت تتصور أن الكلام موجه لك أنت بالذات دون غيرك، فهذا دليل على نوع من الوضوح والصراحة مع نفسك.لكن إن كنت تشعر بأن المخاطبين أناس موجودين في كوكب آخر، فيجب أن تتنبه إلى أن هذه بداية الحيل النفسية، أنك تجعل الكلام يزل عن يمينك وشمالك ولا يصيبك.أول هذه الحيل التواضع الوهمي الكاذب.فيرى الإنسان نفسه ليس أهلا لشيء، لا لعمل ولا لوظيفة ولا لشهادة ولا لإمامة ولا لخطابة ولا لدعوة ولا لتصدر ولا لإدارة ولا لشيء.يقول يا أخي أنا أعرف نفسي، لا تظن أني متواضع، لا.الحقيقة لو تعرف ما في نفسي من العيوب لعذرتني وأدركت أنني لا أقول إلا الحقيقة، فدعني ونفسي.وعبثا تحاول إخراج بعض هؤلاء الناس من تواضعهم الوهمي الذي أصبح يحول بينهم وبين أي عمل.وليست المشكلة في وجود الشعور نفسه، كون الإنسان يتكلم عن نفسه بازدراء أو احتقار أو يهضم نفسه أو يوبخها، هذا لا شيء فيه بل هو أمر فطري بل المؤمن الصادق هو كذلك، لا يصاب بغرور ولا عجب ولا يرى نفسه شيئا.وكما قال أبن مسعود رضي الله عنه كما في الصحيح: (إن المؤمن يرى ذنوبه مثل جبل على رأسه يخشى أن يقع عليه، والمنافق كذباب وقع على وجهه فقال به هكذا بيده فطار).إذا نحن لا نعيبك أن توبخ نفسك ولا أن تزدري نفسك ولا أن تحتقرها فهذا لا شيء فيه.ولكن المشكلة أن يتحول هذا الشعور عندك إلى منهج يحكم كل تصرفاتك وأعمالك.فإذا قلنا لك يا فلان تعال أمسك المسجد وصلي بالمسلمين أو درّس أو أمسك هذه الوظيفة المهمة أو ألف كتابا أو ألقي درسا أو محاضرة أو أمر بمعروف أو أنهى عن منكر، هززت رأسك وقلت:الله المستعان، لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني، فتحول هذا الشعور إلى عائق وحائل يمنع الإنسان من العمل.وأنت تجد أن كلام السلف يدل على أن المشكلة ليست في وجود هذا الشعور والكلام، ولكن المشكلة في كونه يتحول إلى ذريعة لترك العمل الصالح.مثلا أبو الوفاء أبن عقيل – رحمه الله – صاحب كتاب الفنون في ثمانمائة مجلد وهو من أذكياء العالم، له كلام عجيب في توبيخ نفسه نقله أبن الجوزي في كتاب صيد الخاطر، وقال أبن الجوزي بعد ما وبخ نفسه وذمها وعاتبها قال:( وقد رأيت الإمام أبو الوفاء أبن عقيل قد ناح على نفسه نحو ما نحت فأعجبتني نياحته فنقلتها ها هنا).يقول أعجبني صياحه وبكائه على نفسه.ماذا قال أبو الوفاء؟ قال كلاما طويلا مقصده وخلاصته أن أبا الوفاء أبن عقيل يخاطب نفسه ويقول:(يا نفس ماذا استفدت من عمرك الطويل؟ استفدت من أن يقال لك أنك إنسان مناظر قوي الحجة لا غير، مثل ما يقال للمصارع المنتصر الغارة(يوصف بهذا الوصف أو يسمى بهذا الاسم).قال: وعما قليل تترك ذلك في الموت، بل حتى في حياتك لو برز للناس شخص أو شاب افره من وأقوى منك عبارة لربما موهوا له بالقول وركضوا ورائه وتركوك، فماذا انتفعت من قول الناس لك يا مناظر ؟ وأنت تعلم ما في نفسك وما في قلبك.ثم قال والله ما أعلم في نفسي حسنة أستطيع أن أسأل الله بها فأقول: اللهم إني أسألك كذا بكذا.مثل اللهم أني أسألك الجنة بأني أقوم الليل أو بأني أصوم النهار أو بصلة رحم مثلا، يقول إني لا أعلم لنفسي حسنة أستطيع أسأل الله بها فأقول اللهم إني أسألك كذا بكذا.(وعما قليل أموت فيقول الناس مات الرجل الصالح العالم الورع الـ.. الـ.. وولله لو علموا حقيقتي ما دفنوني.)وكلام من هذا القبيل طويل، كلام ثم قال:(والله لأنادين على نفسي وأفضحها لعل الله أن يرحمني بذلك).كلام أبن الجوزي مثلا، وكلا أبو الوفاء أبن عقيل وغيرهم من أهل العلم لعل الكثيرين منكم يفضحون نونية القحطاني: والله لو علموا قبيح سريرتي ….لأبى السلام علي من يلقاني ولأعرضوا عني وملوا صحبتي…ولبؤت بعد كرامة بهوانيإلى آخر قصيدته.لكن السؤال، أبو الوفاء أبن عقيل وأبن الجوزي والقحطاني ومن قبلهم ومن بعدهم حتى الصحابة رضي الله عنهم لهم في ذلك كلام كثير في ازدراء النفس، هل هذا الشعور جعلهم لا يعملون، لا يجاهدون، لا يأمرون بالمعروف لا ينهون عن المنكر؟ لا.. أبو بكر هو الخليفة وأمور المسلمين كلها في عنقه ومع ذلك كثيرا ما يوبخ نفسه، فإذا مدحوه قال:(اللهم أغفر لي ما لا يعلمون واجعلني خيرا مما يظنون).وكثير ما كان أبو بكر رضي الله عنه يقبل على نفسه فيوبخها ويذمها.ومثله عمر، خليفة وتعرف عمر ماذا فعل رجل إيجابي من الدرجة الأولى، ومع ذلك عمر كما في الأثر الصحيح كان يقول: (بخٍ بخ يا أبن الخطاب، بالأمس ترعى غنم الخطاب، واليوم أمير المؤمنين، والله لتتقين الله أو ليعذبنك).إذا فرق بين شعورك بالازدراء والاحتقار لنفسك الذي هو خير وضمانة –إن شاء الله- عن العجب والاغترار وعن حبوط العمل وعن الكبر وعن الغطرسة وعن رد الحق، فرق بين هذا، وبين هذا الاحتقار للنفس الذي هو مدخل من مداخل الشيطان يجعلك لا تقوم بأي عمل صالح ولا تمارس أي دور.كلام أبو الوفاء أبن عقيل وأبن الجوزي والقحطاني ومن قبلهم أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وفلان وعلان لم يمنع آخرين من أن يتكلموا عن ما وهبهم الله من الخير والنعم.لأن النعمة يجب أن تشكر، وأول مراحل الشكر للنعمة هو أن تعرف النعمة، يقول الله عز وجل:(يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون). فأول مراحل الشكر للنعمة المعرفة، فإذا كان الله أعطاك مواهب لابد أن تعرف هذه المواهب حتى تشكرها، ولو جحدتها لكنت منكرا نعمة الله تعالى عليك.يوسف عليه السلام نبي الله: (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم).ما منعه أن يطالب بأن يكون على خزائن الأرض لأنه يعلم أن الله تعالى قد أختصه بهذه المزايا.أبن عباس يقول: (أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله (وما يعلم تأويله إلا الله)، وفي قوله تعالى ، (ما يعلمهم إلا قليل)، أنا من القليل الذين يعلمه).لم يمنعه تواضعه أن يقول هذا.عثمان أبن أبي العاص كما في السنن وهو حديث صحيح: (يا رسول الله اجعلني إمام قومي، قال أنت إمامهم، واقتدي بأضعفهم، وأتخذ مؤذنا لا يأخذ على آذانه أجرا).فعثمان ابن أبي العاص لم يمنعه تواضعه وهضم نفسه من أن يطلب أن يتولى عملا دينيا وهو الإمامة.ليس عملا دنيويا إنا لا نولي هذا الأمر من طلبه، ولكن العمل الديني.ولهذا الله تعالى وصف المتقين كلهم بأنهم عباد الرحمن بأنهم يقولون:(ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما). اجعلنا للمتقين إماما، ما طلبوا فقط أن يكونوا من المتقين.بل طلبوا أن يكونوا أئمة للمتقين، ليسوا أئمة للمؤمنين أو المسلمين فقط، بل للمتقين.ولا شك أنه من الغبن أن يقول العبد في سجوده، واجعلنا للمتقين إماما، ثم يطلب منه أن يتولى أمر ثلاثة في دعوة أو إصلاح أو قيادة أو توجيه أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، ثم ينفض ثوبه ويتنصل ويقول:لا أستطيع …لا أستطيع.لأن مقتضى الشرع أن الدعاء يتطلب العمل الصالح، فإذا قلت:(واجعلنا للمتقين إماما)ينبغي أن تسعى إلى تحقيق الإمامة في الدين. قال الله تعالى:(وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون). قال سفيان: (بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين).ولما قال ربيعة ابن مالك الأسلمي رضي الله عنه كما في صحيح مسلم لرسول الله (صلى الله عليه وسلم):(يا رسول الله أدعو الله أن أكون رفيقك في الجنة، قال أعني بكثرة السجود).إذاً، إذا دعوت بشيء عزز دعائك بفعل الأسباب، وكما قال عمر رضي الله عنه: (أخلط مع دعاء العجوز شيئا من القطران). كانوا يقولون إذا أصاب أبل الصدقة الجرب، نذهب إلى عجوز هناك تدعو فيشفيها الله تعالى، فقال عمر رضي الله عنه:لا بأس هذا جيد أذهبوا للعجوز لكي تدعو.ولكن وفي نفس الوقت هاتوا القطران وهو نوع من العلاج اطلوا به هذا الجرب فيزول بأذن الله تعالى. فالسبب لابد من فعله، الدعاء سبب وفعل العمل الصالح من السجود أو السعي إلى الإمامة في الدين بالصبر والتقوى واليقين هو أيضا مطلوب.وأحيانا تجد أن المعصية أو النقص أو التقصير يتسبب للإنسان في ترك العمل الصالح، وكأنه يظن أنه لا يعمل للخير إلا الكامل فلا يعملون، مع أنك لو نظرت للنص الشرعي وجدت غير هذا.يا فلان لماذا لا تدعو إلى الله ؟قال الله المستعان، روائح ذنوبي فاحت.أنا أستحي أن أقف أمام الناس، أستحي من الله تعالى.أخجل أن أعظ الناس وأنا أحتاج إلى من يعظني.طيب يا أخي، الآن أنت عندك مال، هل تزكيه؟ قال نعم أزكيه لأنه بلغ النصاب.طيب، المال بلغ النصاب تزكيه، لكن ألم تعلم أن العلم عليه زكاة أيضا، وفي نفس الوقت العلم ليس له نصاب، فالرسول عليه الصلاة والسلام بين النصاب في الأموال الزكوية، ولكن بالنسبة للعلم ماذا قال ؟ قال:(بلغوا عني ولو آية). كما في الصحيح.آية واحدة فقط أو حديثا.(نظّر الله امرؤا سمع منا حديثا فبلغه). آية وحدة أو حديث واحد، من يوجد من المسلمين كلهم من لا يحفظ آية أو يحفظ حديثا؟فيجب أن تتفطن أن كل قدر من العلم ولو قل عندك عليه زكاة، وأن تقصيرك أنت بفعل المعصية، ليس موجبا بل ولا مبيحا لترك النهي عنه، وتقصيرك بترك الطاعة ليس موجبا بل ولا مبيحا بترك الأمر بها.بمعنى يجب أن تأمر بالمعروف ولو كنت تاركا له، ويجب أنت تنهى عن المنكر ولو كنت واقعا فيه.ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب….فمن يعظُ العاصين بعد محمدِولا شك في هذا بل هو يكاد يكون إجماعا لأهل العلم.إذ كونك تركت المعروف بنفسك هذا خطأ، تعالجه بخطاء آخر أنك أيضا لا تأمر به.وكونك فعلت المنكر هذا خطأ، لكن تعالج هذا الخطاء بخطأ آخر هو أنك لا تنهى عن المنكر.وأضرب لك مثالا بسيطا:أنت – وحاشاك إن شاء الله – مبتلى بشرب الدخان لأنك نشأت في بيئة لم تعودك على ترك هذا، فأخذته بالتقليد والعادة وأصبح صعبا عليك تركه بسبب الإدمان.تزوجت ورزقت بأولاد فوجدت أبن عشر سنوات من أولادك يدخن.هل تقول حين إذا لا أنهاه لأني أنا مدخن؟قطعا لا… بل ستقول أمنعه وستتخذ من كونك مدخنا حجة عليه، وستقول له يا ولديأنا جربت قبلك وابتليت بهذا الداء الذي أخرج من مالي وأتركه لكن عجزت.فأنت الآن ما دمت في بداية الطريق أبتعد عن هذا الشيء.فتستفيد من الخطأ الذي وقعت فيه في نهي الناس.مع أنك مطالب بترك المعصية ومطالب بفعل الطاعة، ولكن ليس من شروط الأمر بالمعروف أن تكون فاعله.ولا من شروط النهي عن المنكر أن تكون تركا له.أما قول الله تعالى:(أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم).هذا نعم.. لا شك أنه يوبخ لأن الآمر للناس عالم، وكان مفروضا أن يكون أول الممتثلين، كما قال شعيب عليه السلام:(وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه).
لكن كونك قصرت في هذا لا يبيح لك أن تقصر في الثاني.مثله قوله عليه السلام كما في حديث أسامة في صحيح البخاري:(يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى بالنار …إلى قوله كنتم آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه).نقول هذا هل دخل النار لأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟كلا…الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنية الصالحة عمل صالح يدخل الجنة ويباعد عن النار، وإنما دخل النار لأنه يفعل المنكر ويترك المعروف.أو لأنه يأمر وينهى على سبيل النفاق والخداع والتغرير لا على سبيل الصدق والإخلاص والعمل الصالح.ولإنسان الإيجابي الفعال له منطق آخر.تجده ممكن يلقي درسا عن قيام الليل وفصل قيام الليل ويرغّب الناس فيه، فإذا قالت له زوجته وهي تعرف أنه لا يقوم الليل، أو قال له زميله الذي يعرف انه لا يقوم الليل:يا فلان أتحث الناس على قيام الليل وأنت منجعف على فراشك تتقلب، ما تخاف الله ؟ ما تستحي ؟حاول أن يقوم وبذل الجهد، لكنه يقول في نفسه أيضا ربما قام أحد هؤلاء الناس الذين سمعوا موعظتي فدعا الله سبحانه وتعالى فكنت أنا شريكا في الأجر لأنه قام بسببي، وربما أشركني بدعوة صالحة، والدال على الخير كفاعله.وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه)وفي حديث جرير أبن عبد الله البجلي: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها)فيأخذ الأمر من هذا المنطلق.أضرب لكم مثالا يسيرا، وإنما اخترته لكثرة تكرره:رأيت الكثيرين من الشباب، أئمة مساجد وأساتذة، ومدرسين في حلقات، ومشرفين على نشاطات خيرية، تجد الواحد منهم يتبرم من عمله ويتضايق ويهم بالترك حتى كأنه عصفور في قفص، وقد التقيت بالكثيرين منهم فأساله لماذا؟فيقول عندي عيوب عندي أخطاء، أنا ما أستاهل، أنا..أنا..وبعدما الغلغه واخرج ما في نفسه أكتشف مثلا أن هذا الإنسان مبتلى بما يسمى بالعادة السرية.طيب..هذا خطأ وينبغي أن تبذل جهدك للخلاص منه.ولو لم يكن من سيئاته إلا ما أوجده في قلبك من الضيق والتبرم والحسرة والشقاء والخجل لكان كافيا.ولكن هذا الذنب حتى مع القول بتحريمه وهو قول كثير من أهل العلم وإن لم يقولوا أنه من كبائر الذنوب بل هو من صغائرها. هذا الذنب هل يوجب ترك الإمامة وترك الخطابة وترك الدعوة وترك التعليم وترك التوجيه؟يا أخي ربما يغفر لك بسبب إنسان علمته أو دعوته أو وجهته أو ركعة ركعتها أو صلاة صليتها بالمسلمين.وهذا ضرره قاصر على نفسك لا يتعدى إلى غيرك، لكن أعمال الخير التي تقوم به أنت نفعها متعدي إلى الأمة كلها.فلا يخدعنك الشيطان، يجرك من الأعمال الصالحة بهذه الحجة الواهية.ثم بعد ذلك لا أنت تركت المعصية أو الذنب الذي أنت واقع فيه ولا أنت قمت بهذه الأعمال الصالحة التي هي تقاوم الإثم والسيئة، والله عز وجل يقول: (إن الحسنات يذهبن السيئات).وفي حديث النبي (صلى الله عليه وسلم): (وأتبع السيئة الحسنة تمحها).إذا لا بد من النزول للميدان، لابد من المشاركة في الأعمال، لابد من التوكل على الله عز وجل، لابد من العلم الصحيح الذي يضئ للإنسان الطريق ويبين له ما يأخذ وما يدع، ولابد من أن يهتم الإنسان بأمر نفسه ودعوته، فيهتم بموضوع القدوة ويهتم أيضا بموضوع الدعوة، فإذا أراد أن يقوم بعمل من الأعمال الصالحة فإنه يحرص على إتقانها وأدائها.الحاجز الثاني أو الوهم الثاني وهو الخوف:والخوف أذل أعناق الرجال، وكما أسلفت أحيانا عندما يكون عند الإنسان خلل في نفسيته يكون عنده خلل في تصوره للأمور, وإدراكه للأمور وتخيله لها، فتجد أنه يخطئ في الحسابات ويضخم الأمور تضخيما مبالغا فيه.فمثلا إنسان عنده وسواس، ولاشك أن الوسواس نوع من الخلل، تجد هذا الموسوس يخاف من الكفر، فيقول يا أخي أنا قلت كذا هل يعتبر هذا العمل كفر؟ تقول له لا.بعد فترة يقول لك أنا جاء في قلبي كذا، هل تعد هذا من الكفر؟ تقول له لا.وربما سألك في اليوم الواحد عشرين سؤالا كلها تدور حول هل يعد من الكفر؟ هل يعد من الكفر؟طيب..أنت إنسان موصول القلب بالله عز وجل، مقبل على الله تعالى، محب لله ولدينه، حريص على تجنب حتى الشبهة فضلا عن الحرام، فضلا عن الكبائر، فضلا عن الكفر، فكيف تحول الأمر إلى خوف في قلبك؟هذا بسبب أن عنده خلل في نفسيته فصار عند خلل في إدراك الأشياء وتصورها وتخيلها ومعرفتها.فتجد أن الإنسان يخاف، يخاف من الطلاق مثلا، حتى أن بعضهم مجرد خاطر في قلبه يأتيه الشيطان ويلقي عنده خاطر أنه إذا لم تتجاوز هذه السيارة وتسبقها فزوجتك طالق، مجرد خاطر.فتجده يسرع بقوة حتى يتجاوز هذه السيارة، فإذا وصل إلى الإشارة وضع الشيطان عند وهم أنه إذا ما رجعت من عند هذه الإشارة وأخذت الدورة مرة أخرى من عند الرصيف الآخر فزوجتك طالق.فتجد هذا المسكين يركض كالمجنون*، تركض وراء ماذا؟ تبحث عن ماذا؟مجرد أوهام يلقيها الشيطان وأخيلة نتيجة خلل في النفسية واضطراب وعدم وضع للأمور في مواضعها. هذا نموذج قد يكون واضح، وربما البعض يضحك منه.لكن خذ أمثلة مشابهة قد لا تضحك منها بل ربما تقول أنا مبتلى بها.مثلا الخوف من رجال الأمن، الخوف من أجهزة المخابرات وأجهزة المباحث.تجدها ترسم بصماتها أحيانا على بعض الناس فيخاف من كل شيء ويقرأ في كل حركة وفي كل لفتة وفي كل نضرة.يخاف من المباحث يخاف من الاستخبارات، يخاف من الدول، سواء ما يسمونها الدول العظمى أو غيرها حتى يقول أحدهم وكان إنسانا أخطأ فهرب فيقول معبرا عن هذا المعنى بالضبط يقول:لقد خفت حتى لو تمر حمامة….لقلت عدو أو طليعة معشر فإن قيل خير قلت هذه خديعة….وإن قيل شر قلت حق فشمر يقول إذا جاءني واحد وقال أبدا اطمأن الأمور طيبة، قلت هذا مرسول ليخدعني، وإن جاءني أحد وقال أهرب الطلب في أثرك، قلت هذا صادق ثم شمرت وركضت. هذا خوف. والآخر يقول:حتى صدى الهمسات غشاه الوهن…لا تنطقوا إن الجدار له إذن .والثالث يقول:لو كنت أستطيع أن أقابل السلطان قلت له يا حضرة السلطان كلابك المفترسات دائما ورائيكلابك المفترسات مزقت حذائيومخبروك دائما و رائيأنوفهم ورائي، عيونهم ورائيآذانهم ورائي كالقدر المحتوم كالقضاءيستجوبون زوجتي ويكتبون عنهم أسماء أصدقائي.
| |
|
جلال العسيلى مشرف عام
عدد المساهمات : 5415 نقاط : 7643 السٌّمعَة : 13 تاريخ التسجيل : 16/05/2010 العمر : 62
| موضوع: رد: الحيل النفسية الثلاثاء أكتوبر 18, 2011 1:07 pm | |
| شكـرا جزيلا على هـــذا المـــوضوع الــرائع والمميز الذي يستحق كل التقدير
| |
|