صحبة الخير
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }الحجرات13

{إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً }الإسراء9

يسعدنا ان تشارك معنا
صحبة الخير
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }الحجرات13

{إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً }الإسراء9

يسعدنا ان تشارك معنا
صحبة الخير
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

صحبة الخير

منتدي اسلامي ثقافي دعوي اجتماعي عام
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول
 
بسم الله الرحمن الرحيم

رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ
صدق الله العضيم


 

 تاملات في غزوة بدر

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
مسلم
Admin
مسلم


عدد المساهمات : 9693
نقاط : 17987
السٌّمعَة : 67
تاريخ التسجيل : 11/03/2010
العمر : 55

تاملات في غزوة بدر Empty
مُساهمةموضوع: تاملات في غزوة بدر   تاملات في غزوة بدر Emptyالثلاثاء أبريل 20, 2010 1:56 pm


تعتبر السيرة النبوية بأحداثها وتفاصيلها مدرسة نبويّةً متكاملة ، لما تحمله بين ثناياها من الدروس العظيمة والفوائد الجليلة ، التي تلبّي احتياجات الناس وتحلّ مشاكلهم ، وترسم لهم منهج التعامل مع مواقف الحياة ومجرياتها.


وغزوة بدر ، هي إحدى الغزوات المليئة بالعظات والعبر ، والمعاني والدلالات ، فيحسن الوقوف أمام تلك التجربة لإلقاء الضوء على أحداثها واستخراج الفوائد من بين سطورها .


إن أبرز ما جاءت به غزوة بدر ، تأكيد مبدأ الشورى ، باعتباره مبدأً من مباديء الشريعة وأصلاً من أصول الحكم ، وصورةً من صور التعاون على الخير ، يحفظ توازن المجتمع ، ويجسّد حقيقة المشاركة في الفكر والرأي ، بما يخدم مصلحة الجميع .


فرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو المؤيّد بالوحي - استشار أصاحبه في تلك الغزوة أربع مرّات ، فاستشارهم حين الخروج لملاحقة العير ، واستشارهم عندما علم بخروج قريشٍ للدفاع عن أموالها ، واستشارهم عن أفضل المنازل في بدر ، واستشارهم في موضوع الأسرى ، وكلّ ذلك ليعلّم الأمة أن تداول أي فكرة وطرحها للنقاش يسهم في إثرائها وتوسيع أفقها ، ويساعد كذلك على إعطاء حلول جديدة للنوازل الواقعة .
كما أقرّ النبي – صلى الله عليه وسلم – بمبدأ آخر لا يقلّ أهمية عن سابقه ، وهو تطبيق المساواة بين الجندي والقائد ، ومشاركته لهم في الظروف المختلفة ، يتّضح ذلك في إصراره عليه الصلاة والسلام على مشاركة أبي لبابة وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما في المشي وعدم الاستئثار بالراحلة .


وقد تبيّن بجلاء من خلال هذه الغزوة ، ومن خلال الآيات التي تناولتها ، حقيقة النصر وكونها بيد الخالق سبحانه ، قال تعالى : { وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم } ( الأنفال : 10 ) ، وأن النصر لا يتم إلا باستتمام أسبابه كلها ، فليست القوة وحدها هي مفتاح النصر ، ولو كانت كذلك لكان النصر من نصيب المشركين الذين فاقوا الصحابة عددا وعُدّة ، وبذلك نرى أن المسلمين عندما استكملوا أسباب النصر وأتمّوا شروطه تحقّق لهم النصر في هذه المعركة .


وأسباب النصر التي جاء التنبيه عليها تتعلّق بتقوى الله عزوجل والطاعة لأوامر الوحي ، والصبر عند ملاقاة العدو والثبات أثناء المعركة ، وإخلاص النيّة في القتال ، إضافة إلى ضرورة البعد عن أسباب الشحناء والاختلاف ، وأهمية الإكثار من ذكر الله عزوجل قبل وأثناء المعركة ، والتأكيد على إعداد العدّة والأخذ بكافّة الأسباب الممكنة للمواجهة ، والتوكّل على الله عز وجل بعد الأخذ بكافّة الأسباب الحسّية والمعنوية ، وكل هذه الأسباب مبثوثة في عدد من الآيات كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } ( الفرقان : 29 ) ، وقوله سبحانه : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ، وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ، ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس } ( الأنفال : 45-47 ) ، وقوله سبحانه : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } ( الأنفال : 60 ) .


ويأتي الدعاء واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى في مقدّم الأسباب المحقّقة للنصر ، ويظهر أثر ذلك في موقف النبي – صلى الله عليه وسلم – في هذه المعركة وإلحاحه في الدعاء حتى سقط عنه رداؤه .


وبعد أن استكمل المسلمون شروط النصر وأسبابه رأينا التدابير الإلهيّة التي ساقها الله تعالى ، فجاء المدد الإلهيّ بالملائكة لمساندة المؤمنين ، وجاء التثبيت القلبي الذي رفع من معنويّاتهم ، ونزل المطر ليكون سبباً من أسباب النصر والتأييد بما حقّقه من أثر في تطهير القلوب والأجساد وتثبيت الأقدام ، وكذلك للنعاس الذي تغشّى المؤمنين قبل المعركة كان له أثره في شعورهم بالأمن والطمأنينة .


ومن الفوائد والتوفيقات الإلهية ، تقليل المؤمنين في أعين الكافرين ، لأنه لو كثّرهم في أنظارهم لعدلوا عن القتال ، وقد أشار الله إلى ذلك في قوله { ليقضي الله أمرا كان مفعولا } ( الأنفال : 44 ) ، وفي هذه الحالة لن يتأهب المشركون كل التأهب فيستهينوا بقدرات خصومهم ، وفي المقابل فإن تقليل المشركين في نظر المسلمين مع تواضع إمكاناتهم وقلّتها أسهم في زيادة ثقتهم بأنفسهم .


كما جاءت النصوص القرآنيّة المتعلّقة بهذه الغزوة لتلقي الضوء على قضيّة الغنائم من جميع الجوانب ، مبتدئةً ببيان حقيقة كون المال لله سبحانه وتعالى ، وأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إنما هو مستخلفٌ عليه ، لا يحقّ له التصرّف فيه إلا بأمر إلهي ، ونلمح هذا من خلال إضافة الغنائم لله ورسوله في قوله تعالى : { قل الأنفال لله والرسول } ( الأنفال : 1 ) ، ثم جاء توجيه النظر إلى تقوى الله سبحانه وتعالى والتزام الطاعة ، ونبذ الخلاف والاختلاف ، كالذي حصل في تلك الغزوة .


وفي إباحة الغنائم بيان لمكانة أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – ورحمته بها ، حيث أباح لها الغنائم لمّا علم عجزها وضعفها ، وقد كانت محرّمة على الأمم السابقة ، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (لم تحل الغنائم لأحد سود الرؤوس من قبلكم ، كانت تنزل نارٌ من السماء فتأكلها ) رواه الترمذي .


ثم جاء التفصيل في كيفيّة توزيع الغنائم في قوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } ( الأنفال : 41 ).


ومما يُستفاد من هذه الغزوة ، أن العدل والتواضع سببان رئيسيّان في محبة الجند للقائد ، فقد رأينا كيف يدعو النبي – صلى الله عليه وسلم – أحد أفراد الجيش للاقتصاص منه حين ظنّ بأنّع قد أوجعه وهو يسوّي الصفوف ، فترك ذلك الموقف أثراً كبيراً في نفس الصحابي .


وقد حفلت النصوص المتعلّقة بغزوة بدر على الكثير من التقويم والمراجعة والتصحيح ، والتي تتعلق بنظرتهم إلى الأحداث وتعاملهم مع القضايا التي واجهوها ، ففي قضيّة الغنائم نجد أن الخطاب القرآني كان صريحاً في معاتبة المسلمين على النزعة الدنيوية التي بدرت من بعضهم في هذه الغزوة ، قال تعالى : { تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ، والله عزيز حكيم } ( الأنفال : 67 ) ، وفي ذلك درسٌ تربويٌ في سمو الأهداف وعظمة الغايات مهما كانت الأحوال والظروف .


وفي قضيّة التعامل مع الأسرى وجّه القرآن الكريم النظر إلى وجوب قتل المشركين وعدم استبقائهم – خصوصاً في المراحل الأولى من المواجهة - حتى تضعف شوكتهم ويذلّ كبريائهم ، وأن النزعة الرحيمة التي تملّكت مشاعر المسلمين لم تكن في موضعها .


وفي سياق الغزوة العديد من المشاهد التي تظهر عقيدة الولاء والبراء ، وتبيّن أن رابطة الدين فوق رابطة الأخوّة والنسب ، ويتجلّى ذلك في موقف أبي بكر الصديق رضي الله الذي أظهر استعداده لقتل ولده المشرك في ساحة المعركة ، وموقف مصعب بن عمير رضي الله عنه عندما قال لآسر أخيه " شدّ يديك به ؛ فان أمه ذات متاع لعلها تفديه منك " ، فقال أخوه : " يا أخي هذه وصاتك بي ؟ " ، فردّ عليه : " إنه – أي الذي أسرك - أخي دونك " رواه ابن إسحاق وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قضيّة الأسرى : " ولكني أرى أن تمكنني من فلان - قريباً لعمر - فأضرب عنقه ، وتمكن علياً رضي الله عنه من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من فلان – أخيه - فيضرب عنقه ؛ حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين ".


وفي إصرار النبي – صلى الله عليه وسلم – على أخذ الفدية كاملة من عمّه العباس درسٌ آخر في عدم المحاباة أو المجاملة لأحدٍ كائناً ما كان ، إذا تعلّقت القضيّة بالدين .


وضرب النبي – صلى الله عليه وسلم – مثلاً رائعا حينما أبدى استعداده للتضحية بأقرب الناس إليه ، وذلك عندما اختار من أهله وعمومته للمبارزة.


وتظهر حنكة النبي – صلى الله عليه وسلم – وذكاؤه حينما استطاع تحديد عدد أفراد جيش قريش من خلال كلام الأسير ، وهي إشارةٌ أخرى إلى ضرورة جمع المعلومات وتحليلها لتقدير إمكانيّات العدو .


ويُستفاد من الغزوة أيضا : أثر ثبات القائد في ثبات جنوده ، خصوصاً إذا كان محبوباً لديهم ، لأن الجنود في ساعات الخطر تتوجّه أنظارهم مباشرة إلى القادة ، فإذا رأوا منهم بوادر الثقة والطمأنينة والروح المعنوية العالية أثّر ذلك في نفسيّات الجنود بلا شك .


وفي اختيار الحباب بن منذر رضي الله عنه لعين بدر واقتراحه بردم بقيّة الآبار إشارة ذكيّة إلى ضرورة قطع الإمدادات عن العدو ، فإن ذلك مما يكسر شوكة الكافرين ويصعب المهمة عليهم .


ونجد في الغزوة أيضا : مراعاة القائد لظروف جنده ، فقد أعذر رسول الله – صلى الله عليه وسلم - عثمان رضي الله عنه لظروف زوجته ، وأعذر حذيفة بن اليمان ووالده رضي الله عنهما وفاءً بوعد قطعوه بعدم المشاركة في قتال كفّار قريش.


وفيها أيضا : ضرورة تقدير القائد للأدوار التي يقوم بها جنوده حينما أعطى أبا لبابة رضي الله عنه جزءاً من الغنيمة لقيامه بمهمة خاصة في بني عوف ، ومثله عبدالله بن أم مكتوم الذي أوكل إليه النبي – صلى الله عليه وسلم – الصلاة بالمسلمين .


وفي قول النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( إذا أكثبوكم - يعني غشوكم- فارموهم واستبقوا نبلكم ، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم ) رواه البخاري وأبوداود يظهر حسن التدبير العسكري ، وذلك حينما أمرهم بالدفاع عن بعد برمي السهام ، والاقتصاد في رميها ، وسل السيوف عند تداخل الصفوف فحسب .


تلك إشاراتُ سريعةٌ لبعض ما تضمّنته غزوة بدر من فوائد ، والحق أن هذه الغزوة بحاجة إلى وقفات أخرى أكثر عمقاً لبعدها التاريخي وكونها ركيزة دعوية مهمّة للعلماء والدعاة والمصلحين .

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://sohptelker.hooxs.com
مسلم
Admin
مسلم


عدد المساهمات : 9693
نقاط : 17987
السٌّمعَة : 67
تاريخ التسجيل : 11/03/2010
العمر : 55

تاملات في غزوة بدر Empty
مُساهمةموضوع: مشاهد من غزوة بدر   تاملات في غزوة بدر Emptyالثلاثاء أبريل 20, 2010 2:26 pm


( لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) وسام شرفٍ علّقه النبي– صلى الله عليه وسلم – على صدور أصحابه الذين شاركوه في أكبر انتصاراته وأعظمها ، وكيف لا ؟ ويوم بدر كان فاصلاً بين مرحلتين : مرحلة الاستضعاف والإذلال ، ومرحلة المواجهة والتمكين ، وفاصلاً بين فريقين ، فريقٌ يُقاتل في سبيل الله ، وآخر يُقاتل في سبيل الطاغوت ، فكان من حق هذا اليوم أن يُسمّى (بيوم الفرقان ) كما في كتاب الله تعالى.

وتعتبر هذه الغزوة المباركة يوماً عظيماًً من أيام التاريخ الإسلامي ، حيث كانت البداية الحقيقيّة لظهور المسلمين وعلوّهم ، وكل انتصارٍ تلى ذلك اليوم سيظل مديناً لهذه المعركة التي كانت شرارة البدء للفتوح الإسلامية ، فكيف بدأت هذه الغزوة ؟ وما هي بواعثها ؟ .

نقطة البداية كانت في السنة الثانية من الهجرة ، حينما سمع المسلمون بقدوم قافلةٍ عظيمة من الشام تحمل أموال قريشٍ وتجارتها ، ويقودها أبو سفيان مع عددٍ محدود من رجاله ، فرأى فيها النبي – صلى الله عليه وسلم – فرصةً سانحةً لتوجيه ضربةٍ موجعةٍ إلى عصب الحياة الاقتصاديّة لأهل مكّة ، فضلاً عن كونها تعويضاً عن الأموال التي استولى عليها المشركون من المهاجرين ، فحثّ النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه على الخروج قائلاً : ( هذه عير قريش ، فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها لعل الله أن يُنفلكموها – أي يجعلها غنيمة - ) رواه ابن إسحاق .

لقد كانت النيّة إذاً ملاحقة القافلة واغتنامها ، ولذلك لم يخرج من الصحابة سوى ثلاثمائة وبضعة عشر رجل ، معهم فَرَسان وسبعون بعيراً يتعاقبون عليها في الركوب .

وكان من نصيب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعيرٌ يتعاقب عليه هو وأبو لبابة وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ، الذين عرضا عليه أن يتركا له البعير ليركبه ، فقال لهما : ( ما أنتما بأقوى مني ، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما ) رواه أحمد .

ووصلت الأنباء إلى أبي سفيان بخروج النبي – صلى الله عليه وسلم – فأصابه الرعب ، وأرسل رجلاً يُقال له ضمضم بن عمرو الغفاري ليستنجد بأهل مكّة كي ينقذوا أموالهم من أيدي المسلمين .

ويقدّر الله في ذلك الوقت أن ترى عاتكة بنت عبد المطلب رؤيا غريبة ، كانت تتعلّق بقدوم راكبٍ إلى مكّة ووقوفه بين الناس ، ثم صراخه بأعلى صوته : ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم ، وصعوده إلى رأس جبل أبي قبيس وأخذه لصخرة كبيرة قام بقذفها من رأس الجبل ، فتحوّلت تلك الصخرة إلى فتات تناثر على جميع بيوت مكّة ، وتناقل الناس تلك الرؤيا بين مصدّقٍ لها وساخرٍ منها .

وجاءت الأيام لتصدّق تلك الرؤيا ، فبعد ثلاثة أيامٍ تحديداً وصل ذلك الرجل ، وقام يصرخ في الناس قائلاً : " يا معشر قريش ، اللطيمة اللطيمة ، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ، لا أرى أن تدركوها ، الغوث الغوث "

فنهضت قريشٌ برجالها وعتادها ، ولم يتخلّف من أشرافهم سوى أبي لهب ، والذي بعث رجلاً نيابةً عنه ، وسرعان ما احتشدت القوّات من بطون قريشٍ وما حولها من القبائل ، حتى بلغ عددهم ألفاً وثلاثمائة مقاتل ، وهم يحدّثون أنفسهم بسهولة المهمّة ، ولم يعلموا أن الأمور ستتطوّر إلى معركة فاصلة ويوم مشهودٍ في تاريخ البشريّة .

وفي هذه الأثناء كان أبو سفيان في قمة توتره وتحفزّه ، فلو تمكّن المسلمون من الوصول والاستيلاء على القافلة فستكون خسارة فادحة لقريش ، لذلك لم يدّخر جُهداً في تتبّع أخبار المسلمين ورصد تحرّكاتهم ، حتى سمع عن راكِبَيْنِ نزلا بالقرب منه ، فذهب إلى موضعهما ، وقام بفحص البعر الذي خلّفته الإبل ، فرأى فيها أثراً لنوى تمر المدينة ، فعلم أن المسلمين قريبين منه ، فأسرع في تغيير خط سير القافلة واتخذ طريق الساحل ، وتمكّن من الهرب.

ولمّا رأى أنه تجاوز مرحلة الخطر أرسل إلى قريش قائلا : "إن الله قد نجّى عيركم وأموالكم ورجالكم فارجعوا " ، فاستحسنت بنو عديّ رأيه وعادت إلى مكّة ، لكنّ أبا جهل أصرّ على المضيّ في قتال المسلمين بالذين معه ، وقال : " والله لا نرجع حتى نأتي بدراً فنقيم بها ثلاثاً ، فنطعم بها الطعام ، وننحر بها الجزر ، ونسقى بها الخمر ، وتعزف علينا القيان – أي المغنّيات - ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا ، فلا يزالون يهابوننا بعدها أبداً " ، وكانت جهالة أبي جهل وغروره هي بداية النهاية لأشراف قريش .

ووصلت الأنباء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – بعزم قريش على القتال ، فأراد أن يُوقف الصحابة على حقيقة الموقف وحتميّة المواجهة ، لكن مواقف الصحابة تباينت ، فقد أظهر فريقٌ منهم كراهيّته للمواجهة ، لعدم استعدادهم لها ، وقام يراجع النبي – صلى الله عليه وسلم – في ذلك ، وقد سجّل القرآن موقفهم في قوله تعالى : { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكرهون ، يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون } ( الأنفال : 5-6 ).

بينما أيّد قادة المهاجرين فكرة القتال وتحمّسوا لها ، وقال المقداد رضي الله عنه للنبي – صلى الله عليه وسلم - : " والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون } (المائدة :24 ) ولكن نقاتل عن يمينك وعن يسارك ، ومن بين يديك ومن خلفك " رواه البخاري ، فأشرق وجه النبي – صلى الله عليه وسلم - لقوله .

لكن النبي – صلى الله عليه وسلم – أراد أن يطّلع على موقف الأنصار ، فهم أغلب الجند ، وبيعة العقبة لم تكن تُلزِمُهم بحماية النبي – صلى الله عليه وسلم – خارج نطاق المدينة ، فظلّ يردّد قائلاً : ( أشيروا عليَّ أيها الناس ) ، فأدرك سعد بن عبادة مُراد النبي عليه الصلاة والسلام فقال : " إيانا تريد يا رسول الله ؟ ، قد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، لا يتخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا ، إنا لصُبر عند الحرب صدق عند اللقاء ، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، فسِر بنا على بركة الله " ، فأشعلت تلك الكلمات الصادقة حماسة الصحابة فاستقرّ رأيهم على القتال ، ووثقوا بموعود الله ونصره ، وسُرّ النبي – صلى الله عليه وسلم – من جوابهم وقال : ( سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم ) رواه ابن إسحاق .

وبدأ النبي – صلى الله عليه وسلم – يُعدّ الناس للمواجهة المرتقبة ، وبدأ بتنظيم أصحابه وتقسيمهم على ثلاثة ألوية ، وجعل لواء الحرب عند مصعب بن عمير رضي الله عنه ، وأعطى رايتين سوداوين إلى سعد بن معاذ وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ثم استعرض أصحابه فأخرج الصغار ومنعهم من المشاركة في القتال ، وكان من بين أولئك عبدالله بن عمر والبراء بن عازب رضي الله عنهما .

وبينما هو كذلك إذ أقبل رجل من المشركين يريد أن يُشارك في القتال ، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( ارجع فلن استعين بمشرك ) ، وعاود المحاولة مراراً ورسول الله يكرّر الجواب ذاته ، حتى أعلن الرجل إسلامه فسمح له النبي – صلى الله عليه وسلم – بالخروج معه ، رواه أحمد .

وواصل الجيش مسيره حتى بلغوا قريباً من بئرٍ يقال لها بدر ، فأرسل النبي – صلى الله عليه وسلم نفراً من أصحابه لاستطلاع أخبار المشركين ، فوجدوا غلامين من غلمان قريش فقبضوا عليهما ، واقتادوهما إلى النبي – صلى الله عليه وسلم - ، فحاول عليه الصلاة والسلام أن يستعلم منهما إمكانات قريشٍ وعدد أفرادها لكنهما رفضا الإجابة ، فقال لهم : ( كم ينحرون من الجزر –أي الإبل - ؟ ) فقالا : عشرا كل يوم ، فعلم النبي - صلى الله عليه وسلم – أن عددهم يقارب ألف مقاتل ، فأقبل على الناس فقال : ( هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها ) رواه ابن إسحاق .

إذاً فالوضع خطير ، والعدوّ يفوقهم عدداً وعُدّة ، فما أحوجهم في تلك اللحظات إلى عونٍ إلهيّ ومثبّتات إيمانية ، تُلقي على قلوبهم السكينة واليقين بحصول النصر ، فأرسل الله تعالى على المؤمنين أمطار خيرٍ وبركة ، كان لها أثرٌ بالغٌ على النفوس فطهّرتها ، وعلى القلوب فاستيقنت بالنصر وتسلّحت بالصبر ، وعلى الأرض فتماسكت تربتها واشتدّت.

كما أيّد الله تعالى المؤمنين بالنعاس الذي أصابهم تلك الليلة ، فكان سبباً في إزالة الخوف ويثّ السكينة في القلوب ، وقد سجّل القرآن تلك اللحظات ، قال تعالى : { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام } ( الأنفال : 11 ).

ومما رجّح الكفة لصالح المسلمين الخلاف الذي نشأ بين زعامات قريش ، فقد حاول عُتبة بن ربيعة أن يُثني الناس عن الدخول في المعركة ، وأنكر عليهم قتال أنسابهم وأرحامهم ، وحذّرهم من شجاعة المسلمين وبسالتهم في القتال ، فاتهمه أبو جهل بالجبن والضعف ، وأصرّ على مواصلة الزحف ، وكان تعليق النبي – صلى الله عليه وسلم – على ذلك الموقف أن قال : ( إن يك عند أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر – يعني عُتبة بن ربيعة - إن يطيعوه يرشدوا ) رواه ابن أبي شيبة .

وبدأ السباق الشديد نحو ماء بدر بين كلا الفريقين ، حتى تمكّن جيش المسلمين من سبق أعدائهم والنزول بالقرب منها ، وفي تلك الأثناء وقف الحباب بن منذر رضي الله عنه يطوف ببصره في أرجاء المعسكر يتأمّله بعينٍ فاحصة ، ويستحضر معارفه السابقة في تضاريس المنطقة ، فلم يُعجبه اختيار المكان ، وبدا له رأيٌ آخر ، فذهب إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – مسرعاً وسأله إن كان اختيار ذلك الموضع وحياً من الله لا مجال للرأي فيه أم أنه مجرّد اجتهاد ، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم : ( بل هو الرأي والحرب والمكيدة ) ، فاقترح عليه أن ينزلوا عند أقرب الآبار إلى المشركين ثم يقوموا بردم بقيّة الآبار ليحرموا جيش المشركين من الماء ، فأُعجب النبي – صلى الله عليه وسلم – بالفكرة ووضعها قيد التنفيذ .

وجاء سعد بن معاذ رضي الله عنه باقتراح آخر ، وذلك بأن يقوموا ببناء عريش – وهي الخيمة من الخشب – لكي تكون مكاناً للقيادة والاطلاع على مجريات الأحداث ، إضافةً إلى كونها مقرّاً آمنا للنبي – صلى الله عليه وسلم – للحفاظ على حياته ، فتمّت الموافقة وبُني العريش .

واصطفّ الجيشان ، وقام النبي - صلى الله عليه وسلم – يتفقّد جنده ، يقدم هذا ويؤخّر ذاك ، ويشجّع الناس ويُسدي النصائح ؛ فإن اللقاء المرتقب سيكون صعباً ، وبعد التأكد من دور التعبئة النفسية ، عاد إلى عريشه ليتمّم أسباب النصر بالدعاء فيستنصر ربه ويتذلّل لمولاه : ( اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم آت ما وعدتني ، اللهم إن تُهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض ، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني ) واشتدّت مناشدته لربّه حتى سقط عنه رداؤه ، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فأخذ رداءه وأعاده إلى مكانه ، ثم احتضنه من ورائه وقال : " يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك ؛ فإنه سينجز لك ما وعدك " .

عندها خرج النبي – صلى الله عليه وسلم – من عريشه وقال لعلي : ( ناولني كفاً من حصى ) ، فناوله إياها ، فأخذها النبي – صلى الله عليه وسلم - فرمى بها وجوه المشركين ، وبقدرة الله تعالى ، وصلت تلك الحصيات إليهم ، فما بقى أحدٌ منهم إلا امتلأت عيناه منها ، كما قال تعالى : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } ( الأنفال : 17 ).

وبدأت المعركة بمبارزة قويّة بين عتبة بن ربيعة وحمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه ، وبين الوليد بن عُتبة وعبيدة بن الحارث رضي الله عنه ، وبين شيبة بن ربيعة وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فانتصر حمزة وعلي ، في حين سقط عتبة وشيبة مثخنين بالجراح ، فأجهز حمزة وعلي على الوليد ثم عادا بعبيدة إلى معسكر المسلمين .

والتحم الفريقان ، وتصاعدت حميّة المسلمين وتعالت التكبيرات ، يتقدّمهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصول ويجول في أرض المعركة كأنّه جيشٌ وحده ، حتى قال الصحابة يومئذٍ : " قد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أقربنا إلى العدو ، وكان من أشد الناس يومئذ بأسا " ، وانطلقت هتافاته - صلى الله عليه وسلم - قائلةً : ( قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض ) فوصلت تلك الكلمات إلى قلب عمير بن الحمام الأنصاري رضي الله عنه ، فرمى بتمرات كانت بيده وقال : " لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة " ، ثم انطلق كالسهم يشقّ صفوف المشركين وهو يضرب بسيفه يمنةً ويسره حتى سقط شهيداً .

وجاء المدد الإلهي بقوّات مساندة من آلاف الملائكة لتثبّت الذين آمنوا وترجّح الكفّة لصالحهم ، يقودهم جبريل عليه السلام بفرسه كما ثبت في الأحاديث الصحيحة ، منها قول ابن عباس رضي الله عنه : " بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه ، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول : أقدم حيزوم – اسم الدابة التي يركبها الملك - ، فنظر إلى المشرك أمامه ، فخرّ مستلقيا ، فإذا هو قد خطم أنفه – قطع أنفه - وشق وجهه كضربة السوط " ، وقول أبي داود المازني : " إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل سيفي إليه ، فعرفت أنه قتله غيري " .

وتزعزعت صفوف المشركين ودب الرعب في قلوبهم ، فلم يكونوا يتصوّرون أن هذه الفئة المؤمنة قليلة العدد ومحدودة الإمكانات تستطيع أن تقف في وجوههم وتنتصر عليهم ، وسرعان ما تساقطت جثث المشركين وجن جنون أبي جهل - فرعون هذه الأمة - وهو يرى الهزيمة تنزل بأصحابه ، ولم يعلم أن موعده مع المنيّة أقرب مما يظنّ ، ليس على يد قيادات المسلمين أو فرسانهم ، ولكن على أيدٍ غضّة من فتية مؤمنة ، يقول عبد الرحمن بن عوف : " إني لفي الصف يوم بدر ، إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن ، فكأني لم آمن بمكانهما ، إذ قال لي أحدهما سرا من صاحبه : يا عم ، أرني أبا جهل ، فقلت : يا ابن أخي ، وما تصنع به ؟ ، قال : عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه ، فقال لي الآخر سرا من صاحبه مثله ، فأشرت لهما إليه ، فشدا عليه – أي انطلقا نحوه - مثل الصقرين حتى ضرباه " وهما معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء رضي الله عنهما.

وانجلت المعركة عن خسارة فادحة لقريش ، فقد قٌُتل سبعون رجلاً من أشرافهم ، وأُسر منهم سبعون ، فولّوا الأدبار يجرّون أذيال الخيبة ، بينما لم يُقتل من المسلمين سوى أربعة عشر شهيداً ، قدّموا أرواحهم قرباناً لهذا النصر العظيم ، الذي ذاق المسلمون حلاوته ، وخلّد الله ذكره في سورة كاملة ، ليبقى شاهد حقٍ على نُصرة الله لأوليائه ودفاعهم عنه

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://sohptelker.hooxs.com
مسلم
Admin
مسلم


عدد المساهمات : 9693
نقاط : 17987
السٌّمعَة : 67
تاريخ التسجيل : 11/03/2010
العمر : 55

تاملات في غزوة بدر Empty
مُساهمةموضوع: غزوة بدر وقضية الاسري   تاملات في غزوة بدر Emptyالثلاثاء أبريل 20, 2010 2:28 pm


انتهت معركة بدر ، ولا تزال الفئة المؤمنة تعيش أجمل لحظات انتصارها ، وكل فردٍ من أفرادها تتراءى له مشاهد التعذيب والاستضعاف التي مارسها طغاة قريشٍ أيّام مكّة ، ثم ينظر إلى جثث المشركين وقد تناثرت هنا وهناك ، فتهيج في نفسه مشاعر لا تُوصف من الفرحة والبهجة ، والشكر لله عز وجل الذي أتمّ النصر ، وأعلى الحق ، وأزهق الباطل .

في تلك اللحظات جاء الأمر النبوي بجمع جثث صناديد قريش ، ليعلم الجميع كيف تكون عاقبة الكفر وأهله ، وليغدو مصرعهم عبرةً للأجيال ، فانطلق الصحابة ينفّذون أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دون إبطاءٍ ، وكان من بين هؤلاء عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ، الذي قام يتفحّص وجوه الجثث من حوله ، فإذا به يصل إلى أبي جهل وهو في الرمق الأخير ، فانطلق إليه مسرعاً ، فقال له : أأنت أبو جهل ؟ ، فردّ عليه : وهل فوق رجل قتلتموه أو رجل قتله قومه ؟ ، فقال ابن مسعود : أخزاك الله يا عدو الله ، فنظر أبو جهل إلى ابن مسعود رضي الله وهو جاثم على صدره ، فقال له : لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا ، فقطع ابن مسعود رأسه فجاء به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يبشّره بمقتل عدوّه اللدود .

وتمكّن المسلمون من جمع جثث المشركين التي بلغت أربعاً وعشرين جثّة ، فأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن تُسحب سحباً وتُلقى في أحد الآبار المهجورة في المنطقة ، وكان من بين أولئك القتلى والد أبي حذيفة رضي الله عنه ، فلمح النبي – صلى الله عليه وسلم – التأثّر في وجه ولده فقال له : ( يا أبا حذيفة ، والله لكأنه ساءك ما كان في أبيك ) ، فقال : " والله يا رسول الله ما شككت في الله وفي رسول الله ، ولكن إن كان – أي والده - حليماً سديداً ذا رأي ، فكنت أرجو أن لا يموت حتى يهديه الله عز وجل إلى الإسلام ، فلما رأيت أن قد فات ذلك ، ووقع حيث وقع أحزنني ذلك ، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير " ، رواه الحاكم .

وظلّ النبي – صلى الله عليه وسلم – في ساحة المعركة ثلاثة أيّام ، وصارت سنّةً في معاركه كلّها ، حتى إذا كان اليوم الثالث أمر بتجهيز راحلته ثم انطلق إلى موضع دفن المشركين ، وجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : ( يا فلان بن فلان ، ويا فلان بن فلان ، أيسرّكم أنكم أطعتم الله ورسوله ، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ) ، فاستغرب الصحابة أن يُنادي رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أجساداً لا أرواح لها ، فأجابهم بقوله : ( والذي نفس محمد بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ) رواه البخاري .

وبعد الانتهاء من المعركة برزت مشكلة جديدة لم يتعامل المسلمون معها من قبل ، ألا وهي كيفية التصرّف في الغنائم التي غنمها المسلمون في المعركة ، هل يعطونها للطائفة التي قامت بجمعها وحراستها ؟ ، أم يعطونها للذين قاموا بمطاردة فلول المشركين ؟ ، أم أن الذين قاموا بحراسة النبي – صلى الله عليه سلم – أثناء وبعد المعركة هم أحقّ الناس بتلك الغنائم ؟ ، ونزل القرآن الكريم مجيباً عن تلك التساؤلات : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } ( الأنفال : 1 ) ، { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } ( الأنفال : 41 ) ، رواه أحمد ، فقسّم النبي – صلى الله عليه وسلم – الغنيمة بينهم بالتساوي .

ولم ينسَ النبي – صلى الله عليه وسلم – نصيب أناسٍ تخلّفوا عن المعركة لظروفٍ خاصّة ، كان منهم عثمان بن عفّان رضي الله عنه ، حيث كان يقوم برعاية شؤون زوجته رقيّة رضي الله عنها في مرضها ، وكان منهم أبو لبابة رضي الله عنه الذي أرجعه النبي – صلى الله عليه وسلم – عند خروجه للقتال ، وأوكل إليه أمر المدينة ، ومنهم والحارث بن حاطب رضي الله عنه الذي أرسله النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى بني عمرو بن عوف في مهمّة خاصّة .

ثم جاءت القضيّة الثانية ، وهي كيفيّة التعامل مع الأسرى ، فقد استشار النبي – صلى الله عليه وسلم – صحابته في شأنهم ، فكان رأي أبي بكر رضي الله عنه أخذ الفدية من الكفّار ليتقوّى المسلمون بها ، ولعلّ في ترك قتلهم فرصةً للمراجعة والتفكير بالإسلام ، بينما أشار عمر بن الخطّاب وسعد بن معاذ رضي الله عنهما بقتلهم ، لأنهم أئمة الكفر ، وفي التخلّص منهم ضربةٌ قويّة لأهل مكّة ، بل قال عبدالله بن رواحة رضي الله عنه : " يا رسول الله ، انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه ، ثم أضرمه عليهم نارا " .

ومال النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى رأي أبي بكر رضي الله عنه ، فحسم الخلاف واختار الفدية ، لكنّ الله عز وجل عاتب نبيّه عتاباً شديداً على هذا الاختيار ، وذلك في قوله : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم ، لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ، فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم } ( الأنفال : 67-69 ) ، والعتاب إنما جاء لقبول النبي – صلى الله عليه وسلم – للفداء في وقتٍ لم تكن فيه الغلبة والظهور لأهل الحقّ ، مما يكون سبباً في ضعف المسلمين ومعاودة خصومهم للقتال ، وهذا لا يصبّ في مصلحة المسلمين .

وقد تأثّر النبي – صلى الله عليه وسلم - من عتاب ربّه له غاية التأثّر ، وتذكر كتب السيرة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم – و أبي بكر رضي الله عنه وهما يبكيان ، فقال : يا رسول الله ، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ؟ ، فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما ، فقال له : ( أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة - شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم - ) رواه مسلم .

ثم أذن الله سبحانه وتعالى بقبول الفداء ، فجعل الأسرى يفتدون أنفسهم بما يملكون من المال ، فمنهم من كان يدفع أربعة آلاف درهم ، ومنهم من كان يدفع أكثر من ذلك ، أما الذين لم يكونوا يملكون شيئاً فكان فداؤهم تعليم أولاد المسلمين الكتابة .

وأرادت زينب بنت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – افتداء زوجها أبي العاص بقلادة لها كانت عند خديجة رضي الله عنها ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقّ لها رقّةً شديدة ، وقال لأصحابه : ( إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها ) فوافقوا على ذلك ، رواه أبو داود .

وقد حاول من كان حاضراً أن يشفع في العباس عم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في ترك أخذ الفداء منه ، وقالوا : ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه ، فقال لهم : ( والله لا تذرون منه درهماً ) رواه البخاري .

وأوصى النبي – صلى الله عليه وسلم – بمعاملة الأسرى معاملة حسنة ، وقال : ( استوصوا بالأسارى خيرا ) ، فامتثل الصحابة لذلك وضربوا أروع الأمثلة ، يقول أخٌ لمصعب بن عمير رضي الله عنه : " ..وكنت في نفر من الأنصار ، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر وأطعموني البرّ ؛ لوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " رواه الطبراني .

وقد تركت هذه المعاملة الحسنة أثرها في قلوبهم ، فأسلم كثيرُ منهم في أوقاتٍ لاحقة ، مثل السائب بن عبيد وأبو عزيز رضي الله عنهما ، وعاد أولئك الأسرى إلى مكّة وكلّ حديثهم عن كرم أخلاق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه .

إلا أن ذلك لم يمنع النبي – صلى الله عليه وسلم – مِن قتل مَن اشتدّ أذاه للمسلمين كأمثال عقبة بن أبي معيط ، الذي قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، والنضر بن الحارث الذي كان من أكبر المحرّضين على قتال المسلمين .

وعاد الجيش الإسلامي المنتصر إلى المدينة ، يسبقهم زيد بن حارثة رضي الله عنه وهو راكبٌ ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ليُبشّر الناس ، وانطلقت الجموع إلى نواحي المدينة يستقبلون إخوانهم العائدين ، وكان من بين تلك الجموع أم حارثة رضي الله عنها التي بلغها مقتل ولدها الغلام ، فجاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالت : " يا رسول الله ، قد عرفتَ منزلة حارثة مني ، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب ، وإن تكن الأخرى – أي النار - ترى ما أصنع " ، فقال لها : ( ويحك ، أو جنةٌ واحدة هي ؟ ، إنها جنان كثيرة ، وإنه في جنة الفردوس ) رواه البخاري .

أما المنافقون فلم يشاركوا المسلمين فرحتهم ، لأن انتصار المسلمين كان مؤذناً بنهاية أحلامهم في إعادة السيطرة على المدينة ، فاتخذوا سياسة النفاق وإدارة المؤامرات في الخفاء يرأسهم في ذلك عبدالله بن أبي بن سلول الذي قال : " هذا أمر قد توجّه – أي استقرّ - فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام " رواه البخاري .

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://sohptelker.hooxs.com
 
تاملات في غزوة بدر
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» غزوة احد
» غزوة الغابه
» الاحداث عقب غزوة احد
» غزوة الخندق
» غزوة حنين

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
صحبة الخير  :: السيرة والتاريخ :: «۩۞۩ السيرة النبوية ۩۞۩»-
انتقل الى: