ما زال البعض يرى أن طرح قضية ارتباط اللغة بالهوية، هو باب من الترف الصحفي أو الثقافي، ولكنها في الواقع أعمق من ذلك بكثير؛ فالشعب لن يتحول أول ما يتحول إلا من لغته كما يقول الرافعي، الذي يرى أن تأثير نسب اللغة كتأثير النسب الحقيقي، وربما أشد!
ويضرب في ذلك المثل قائلا لو أن ثلاثة أشقاء؛ لأب واحد وأم واحدة نشأوا على ثلاث لغات، لكانت النتيجة كأنهم من ثلاثة آباء وثلاث أمهات. فاللغة هي الوعاء الذي يجمع الكيانات البشرية، ويحفظ خصوصيتها ويعمق هويتها.
وقد انتبه الغربيون لهذه الخاصية اللغوية، فسنوا لذلك القوانين وشددوا العقوبات على المخالفين؛ ففي فرنسا مثلا لا يمكن قبول المكاتبات بين الهيئات المختلفة إلا باللغة الأم، وإن اضطروا وكان الخطاب موجها لهيئة أجنبية؛ فإن الكتاب يكون بلغتين تتقدمهما اللغة الفرنسية.
نذكر هذا بمناسبة دراسة صدرت مؤخرا تفيد أن ثلثي البريطانيين لا يعرفون مفردة واحدة بأي لغة أجنبية، وأنهم لا يبذلون أي جهد للتحدث بلغة أجنبية في الخارج!
ويذكرنا هذا بما كان عليه المسلمون في الأندلس، حيث كان الأوروبيون يشكون من أبنائهم الذين يتلقون العلم على أيدي مسلمين، حين يعودن إلى بلادهم وهم يترنمون بالشعر العربي، فكانوا يوبخونهم ويدعونهم للتمسلك بلسانهم ولغتهم!
ولك أن تعجب إذا عرفت أن 64% من البريطانيين لا يعرفون لغة أخرى غير لغتهم، وتعجب أكثر إذا عرفت أن 47% من الشباب بين 16 و24 سنة لم يستخدموا اللغات الأجنبية التي تعلموها في مدارسهم! وستعجب أكثر إذا عرفت أن 19% من البريطانيين لا يعرفون معني كلمة "مرحبا" باللغة الفرنسية.
بالطبع ندرك أن الإنجليز حين يكونون خارج بلادهم لا يحتاجون الحديث بلغة أخرى؛ لأن العالم كله يتحدث لغتهم، وندرك أيضا أن لغتهم هي لغة العلم في العصر الحالي، وكل هذا مقبول؛ لكن غير المقبول هو التبرؤ من اللغة العربية، كما يفعل بعض الذي يرون أن التحضر والتقدم لا يكون إلا بإقحام المصطلحات الأجنبية أثناء أحاديثهم العادية، وهو نوع من الشعور بالهزيمة الداخلية، يقع فيه أكثرنا.
إننا ونحن نعيش مرحلة خصبة، يتشكل فيها العالم من جديد، نحتاج أن نكون إيجابيين لمواكبة هذا التشكل والمساهمة فيه، وأول خطوة على هذا الطريق هو الاعتزاز بلغتنا والتمسك بها.